في ثمانينيات القرن الماضي، ازدهرت في الثقافة التونسية، وخصوصاً في الفضاءات الطلابية والعمالية، ظاهرة "الأغنية الملتزمة"؛ إذ انتشرت فرق كثيرة وتجارب فردية اشتغلت على أغنية ذات مضموناجتماعي وسياسي، في قطيعة مع كل ما كان يُقدَّم من موسيقى في الأسواق وفي وسائل الإعلام. برزت وقتها، بالخصوص، مجموعات "البحث الموسيقي بقابس"، و"المرحلة"، و"أولاد المناجم"، إضافة إلى حمادي العجيمي والهادي قلّة والزين الصافي ومحمد بحر ولزهر الضاوي وغيرهم.
جميع هذه التجارب انكفأت إلى الظل في التسعينيات، مع صعود الحكم البوليسي لزين العابدين بن علي. تفرّقت المجموعات، وسكت البقية أو هاجروا، حتى غفلت عنهم الذاكرة الشعبية تقريباً إلى نهاية العقد الماضي حين أعادت المواقع الإلكترونية أسماء هؤلاء وأغانيهم للتداول، ثم فتحت الثورة لهم الأبواب للعودة إلى الساحات والمهرجانات لاحقاً.
كثيرة هي الأغاني التي ظهرت في الثمانينيات وجرت استعادتها زمن الثورة ومظاهراتِها واعتصاماتِها بين 2010 و2011. ورغم أن الكثير من الأغاني أُنتجت بموازاة أحداث الثورة، بعضها من نفس أسماء فترة الثمانينيات، إلا أن الجماهير كانت دائماً تفضّل الأغاني القديمة. وهذا ما يمكن تلمُّسه أيضاً في التظاهرات العديدة التي احتفت بالموسيقى الملتزمة في تونس بعد 2011، وكثيراً ما جرى تغيير تسميتها إلى الموسيقى البديلة لكي تستوعب في عنوان موحّد مجموعة التجارب الشبابية الجديدة مثل: آمال المثلوثي وياسر جرادي وبديعة بوحريزي.
من بين هذه التظاهرات "مهرجان الأغنية البديلة" في مدينة قفصة التونسية الذي انطلقت دورته الثانية في 12 من الشهر الجاري، ويتواصل حتى 19 منه. اختيار مدينة قفصة (غرب تونس) لاحتضان المهرجان لا يخلو من دلالة، إذ إنها شاهدة على فترة الزخم الموسيقي للثمانينيات، إضافة لكونها فضاء احتجاج نشطاً خلال أيام الثورة التونسية.
لكن اللافت في برنامج التظاهرة هو هيمنة أسماء "الموسيقى الملتزمة" (جيل الثمانينيات) بواقع أربعة عروض يؤدّيها كل من لزهر الضاوي وفرقتَا "أولاد المناجم" و"البحث الموسيقي بقابس" من أصل ستة، إذ تحضر أيضاً فرقة "أجراس" ولبنى نعمان (عرض الاختتام يوم السبت المقبل) وكلاهما من التجارب الفنية التي ظهرت لاحقاً.
تتزامن التظاهرة مع إحياء الذكرى الثامنة للثورة التونسية، وهنا تظهر المفارقة مرّة أخرى، فالجمهور لا يزال يُقبل على نفس وجوه فترة الثمانينيات أكثر من غيرها، وكثيراً ما جرى تعليل ذلك بكون هذا الجمهور في أغلبيته من جيل شهد في شبابه تلك الفترة، غير أنه من الجدير الإشارة إلى أن نفس التوجّه بات يسود الجمهور الشبابي المقبل على الأغنية البديلة.
على مستوى آخر، يبدو المشرفون على تظاهرات كهذه مقتنعين بنفس الرؤية أو يفضّلون مسايرتها. مسألة باتت تحتاج إلى قراءة عميقة حول منطق تقبّل الموسيقى في تونس، ولماذا تفضّل الأغلبية أن تبقى الأغنية البديلة سجينة نسختها القديمة؟