لعل السمة الأبرز التي تميِّز مسرحية "من الآخر"، التي كتبتها وأخرجتها عايدة صبرا، هي وقوفها في لغة كوميدية تعبيرية طازجة وخاصة. في العرض المستمر حتى نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، على مسرح "مونو" في بيروت، تقوم الممثّلة اللبنانية بلعب دور جمانة، المرأة التي تعرض شخصية زوجها بتناقضاتها ومفاجآتها، وما يترتب عليه ذلك من إخفاقات وانكسارات نفسية.
قد تبدو القصة في شكلها العام مألوفة، غير أن صبرا تحرّكها في أقصى حدود الكوميديا اللمّاحة، مستفيدةً من فضاء المسرح وكيفية التحكم به وإدارته. وجاءت السينوغرافيا، التي صمّمها حسين نخّال ودافيد حبشي، لتساند صبرا في هذه المهمة التهكمية، فكانت فضاءً رمزياً متحوّلاً ولزجاً، يحتضن رموزاً وإشارات وحكايا وتحولات في المشهد الدرامي. وهي، بهذا المعنى، ليست محض ديكور جغرافي، بل جزءاً من الحكايا، تعكس ببساطتها وأصالتها كل المناخات التي ستتعاقب في النص المسرحي.
المكان، لا يحاكي صالوناً منزلياً مثلاً أو رقعة من البيت، بل حيزاً مجهزاً بعناية ليرمز إلى موقع امرأة في حياتها الزوجية. طاولة، أو صندوق واطئ في وسط الخشبة.
مقابل هذا الترميز للمكان، فإن الشخصيتين اللتين تلعبان إلى جانب صبرا على المسرح، إيلي نجيم وسيرينا شامي، في أداء لافت، بلباسهما الملوّن؛ تقومان مقام جوكر التفاصيل وشيطان الذاكرة المتأهب دوماً. فهما مستعدتان للتدخل في الحكايا بإشارات وصور تعلنانها، فتغذي الحكاية ببعد بصري آخر، مقرّب منا، وتضفي طبقة تصويرية بالتحريك المسرحي.
مشهديات صُمَّمِت قصيرة، سريعة وحادة. كما لو أننا في سلسلة من القنابل الصغيرة، الموقوتة، التي تنفجر لتفاجئ وتدحض كل ما قد نتوقعه. لذلك، فإن هذه الإيماءات تعزز أولاً من صورة النص، وتشيّد مستوى مسرحياً داخل حكاية مألوفة.
لكن هذه الطبقات، تضع مسافة كبيرة بين الشخصية الراوية وبين الإشارات نوعاً ما. ذلك أنها تكسر الإيقاع الانسيابي للمونولوج، ومن ثم ترسم أكثر من مناخ. وهي مسافة تتوازن والمسافة بين الزوج الغائب (لا نراه إطلاقاً على الخشبة) والزوجة المثقلة بكل صور العلاقة.
إننا أمام مونولوج غير منعزل في صوته تماماً، يتحرك بين قناتين، كوميدية ودرامية، من دون انغماس سلبي في الحزن أو الخيبة. ينفذ إلى حيوات آخرين، ويفضح قصصاً مستقدمة من الواقع.
أمّا الزمن فيأتي مكسوراً، مقتطعاً، ومنسّقاً كأجزاء ضمن أجزاء الحكاية نفسها. وهو، بالتالي، لا يملك أي سلطة، إلا حين يكون حاملاً لحالة نفسية معقدة أو مشهد درامي أو كوميدي.
"من الآخر" عرض يقارب الوسائل البصرية والصوتية، ويستفيد من التجهيز والتحريك. وعايدة صبرا، كممثلة ومخرجة مسرحية ومؤلفة، اجتهدت لتصوغ نصاً يدخل إلى مجتمع منهك، ويخرج بتركة كوميدية نظيفة ومؤلمة في آن، لزوجة ملتزمة عاطفياً حتى النهاية.