"معهد ثقافات الإسلام": التجاوُر الهشّ في قطرة الذهب

27 ابريل 2020
جانب من "معهد ثقافات الإسلام" (الجدارية لـ طارق بنعوم)
+ الخط -

يتوسَّط "معهدُ ثقافات الإسلام" حيّاً شعبيّاً في قلب باريس يُدعى "قطرة الذَّهب"، إشارةً إلى شُعاع النبيذ الأبيض الذي كان يُعْتَصر من كُرومِه قبل قُرونٍ. ومن هذا الحيّ، يَنفتحُ المَعهد، عبر مَبنَيَيْن مُتقابِلَيْن، على طريقٍ تعمُرُها المحالّ التجاريّة والمقاهي، ويرتادها يوميّاً آلاف المارّة، أقلُّهم فرنسي الأصل، والبقية من المهاجرين والسّياح وحتى المشرَّدين.

أُنشِئَ المعهدُ منذ قرابة ثلاثين سنة بإشرافٍ مُباشر من بَلدية باريس، هذه المؤسسة التي يُفترض أن تَرعى شؤون الثقافة وتَسهر على ازدهار الفنون دون أدنى مَساسٍ بالبعد العقائدي ولا الشعائري، بما أنَّ قانون "العِلمانية" الصارم يحظُرُ تمويل الأنشطة الدينيّة ويفصل تماماً بين شؤون الضمير ومُقتضيات الدّولة.

سارت الأمور على هذا النّحو ردحاً من الزمن حتّى شاعَت بَوادر حرجٍ عميق بين جُدرانه وذاعت خارجَها، عندما خَصَّص المعهد غرفةً لإقامة الصلوات الخمس، في أحد أجنحته الأنيقة، جنباً إلى جنبٍ مع قاعةٍ للمحاضرات والمطعم والحمّام، وهو ما يتناقَض مع قِيم الجمهورية ويضربها في مقتلٍ، حسب ما زَعَموا.

طغى هذا الحرجُ على وسائل الإعلام الفرنسية وخطابات الساسة حين أطلقت رئيسة حزب "التجمع الوطني"، مارين لوبان، صيحتَها حول "الصلوات الجماعية في شوارع باريس"، وتحوَّل المعهد إلى بُؤرة توتّرات بينه وبين رئيسة بلدية باريس. والكلّ يرقصُ على حَبْل رقيق. وهو ما دفع الملاحظين إلى التساؤل عن وظيفته الحقيقيّة: فهل هو أداة من أدوات صُنع ما اصطُلِح عليه في الخطاب الرسمي: "إسلام فرنسا"، ضمن عملية تدجين وهيمنة تهدف إلى مراقبة المضمون الديني لمسلمي فرنسا وفرض بعدٍ ثقافي بحتٍ عليها، يفصله عن أصوله الشعائريّة؟ أم هو نافذةٌ يَلج عبْرها الإسلام إلى أسوار المدينة الـمُحصَّنة؟

تزداد وتيرة التساؤل: كيف ينظر أهالي هذا الحيّ الباريسي إلى المعهد وأنشطته؟ جوابُهم: هذه ظاهرة معقدة، لا يتسنى عنها جوابٌ قاطع، ولا سيما بعد التغييرات السياسية والمجتمعية التي طاولت فرنسا في السنوات الأخيرة، ومحدّدها الحاسم ظهورُ الإرهاب، منذ 2015 واقتران صورة الإسلام بالعُنف. على أنَّ صعوبةَ الإجابة هنا مفهوميّةٌ بالأساس، وليست أمنيّة أو سياسيّة. وهي تكمن في طبيعة الصلة التي نتوقّعها بين مصطلحَيْ "ثقافات" و"إسلام"، اللذيْن حمَلهما هذا المعهد اسماً.

ولا يخفى أنّ المقصود هو الإسلام بمعناه الحضاري، الذي يحيل على المَناطق الجغرافية التي لمستها "الظاهرة الإسلامية"، كما كان محمد أركون يسميها، أو ما سبق أن نظَّر لها المستشرق النمساوي غوستاف غرونبوم (1909-1972). ولا يُراد منه البتّة البعد العقدي - الشعائري. وبهذا، بُرِّرت تغطية أنشِطَته لمساحات متباعدة مكانياً، من تركيا إلى أفريقيا، ومن البلاد العربية إلى سائر المناطق الأعجمية التي انتشر فيها الإسلام.

وأما "الثقافات"، وقد وردت بصيغة الجمع تأكيداً لتنوّعها واختلافها، فتشمل الفنون الجميلة وفنَّ الطبخ وسائر العادات إلى جانب الأفكار والأنظار، وتتضمّن المعارض والحفلات والأفلام وتدريس الضاد ولغة الولوف (السنغال). فالمَعهد يقدّم نفسَه كفضاء للحِوار، تلتقي فيه الشخصيات الفكرية التي تمثّل ثقافات الإسلام، على اختلاف مشاربها ومَصادرها، وفيه يجاورُ المسجدُ المعرضَ التشكيلي، والصلاةُ تمرُّدَ الفَنّ. ولكن هل يصنعُ هذا التجاورُ التحاورَ؟

ويظلُّ مفهومُ التعايش، الذي من المفترض أن يجمع بين الإسلام والعلمانيّة داخل هذا المبنى، هو الآخر غامضاً غائماً. فهل ستَخضع عقائد الإسلام وشعائره، ضرورةً، للإطار القانوني للدولة الفرنسية، أم إنَّ هذه الأخيرة ستَقْبل به "على عِلاته" وتَهبُه حقّ الوجود، دون تجميلٍ ولا تدويرٍ للزوايا؟

سؤالٌ آخر: روزنامة هذا المعهد ثريّة بالمحاضرات والمعارض واللقاءات طوال السّنة، وفيها، كما في كلّ بيتٍ للثقافة، الغَثُّ والسمين. غيرَ أنَّ تهافت هذه الأنشطة يختفي في التصوّر الأصلي وما انبَنى عليه من مفاهيم "ثقافة"، "إسلام" و"تعايش"...، وهي في الدرجة العليا من الغموض والالتباس. وهكذا، يقدّم المعهد مثالاً حيّاً على عدم التجانس بين الفكر والواقع، ما يخلّف مثل تلك التوترات العنيفة التي عرفَها، كاستقالات مُديريه وتعرّضهم لحملاتٍ تشويهية ومهاجمته ضمن المداولات البلدية. ألم يكن الأجدرُ البدءَ بتشييد تصوّر مفاهيمي أمتن حتى لا يتخلخل المبنى وينطفئَ منه شعاعُ "قطرة الذَّهب"؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

دلالات
المساهمون