"في الهند، لم تعد الثقافة مهمة فقط مثلما هي مهمة في أي مكان آخر في العالم أو أن لها الوظيفة ذاتها، بل تكتسب خصوصيتها ووظيفتها من تعدّد وتنوّع لغات ولهجات وأقاليم ومجتمعات هذا البلد الشبيه بالقارة، إضافة إلى ثرائها بمنظومة أصوات تبدأ من قلبها وتمتد حتى أطرافها". بهذه الكلمات، تبدأ المجلة الإلكترونية التي يصدرها "منتدى الكتّاب الهندي" عددها الأخير (رقم 10)، بعد أن ظلّت تكرّر وضع عبارة "الثقافة مهمة" كشعار لها على أغلفة أعدادها منذ البداية.
اسم هذه المجلة هو "غفتغو" أي "محادثة"، وتنشر أعمال الكتاب الهنود مترجمة من لغاتهم المتعددة إلى الإنكليزية. والملحوظ أن القائمين على أمرها قدموا أنفسهم منذ عددها الأول في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2015، بسطور شعرية للشاعر الألماني برتولد بريخت (1898-1956) تقول:
"هل سيكون في الأزمنة المظلمة غناءٌ أيضاً؟
نعم سيكون هناك غناءٌ".
وتمنح هذه المقدمة، بالإضافة إلى اسمي مستشاري المجلة، الشاعر ك. ساتشيداناندان والكاتبة والروائية غيتا هاريهارن، صورة وافية بأفصح الكلمات عن غاية المنتدى ومجلته ومشروعاته الثقافية الأخرى. فالأول من الأصوات الشعرية المميزة المدافعة عن حقوق المضطهدين والأقليات المهمشة، والمؤمنة بأن الشعر "ليس لعبة تركيب كلمات، بل هو انبثاقٌ من بحر ما لا يمكن قوله.. يمنح صوتاً للذين لاصوت لهم". والثانية من أبرز الكتّاب الهنود الذين تجوّلوا في فلسطين المحتلة وقدموا شهادة على بشاعة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في كتاباتهم، وكلاهما ينشط في حملة مقاطعة "إسرائيل" في الهند.
تقول المقدمة: "يذكّرنا بريخت بأننا نستطيع الغناء في الأزمنة الرديئة أيضاً، كما نستطيع الغناء عن الأزمنة الرديئة. وتلائم هذه السطور الحاملة لمفارقة بريختية آداب وفنون الزمن الراهن في الهند. فإذا كان الغناء والرقص والشعر والنثر والسينما والتشكيل، وكل هذا، ممكناً حتى في أكثر الأزمنة التي شهدها التاريخ وحشية، يمكننا الإيمان بأن وضعنا الحالي لا يستطيع أيضاً فرض الخضوع على ما يمكن أن نفعله بممارستنا الفنية بكل أنواعها، وبالتربية والتعليم. إننا نرى في كل يوم برهاناً جديداً على استبدادية الحكم في الهند؛ ذلك النوع من الطغيان الذي يرتطم به عملنا الثقافي، ويصطدم به الراغبون في المشاركة في ما نتصوّره لهم".
وتمضي المقدمة إلى القول: "تتعرّض حتى الممارسات الثقافية اليومية لجماهير واسعة تتشكل منها الهند اليوم، لعدوانية "الشرطة الثقافية" بأقنعتها المختلفة. إن رجال هكذا شرطة يريدون القول لنا جميعاً ماذا علينا أن نأكل ونلبس ونقرأ ونقول وبماذا نفكر وكيف نصلي؛ وباختصار.. يريدون تعليمنا كيف يجب أن نعيش".
هذا هو إذاً اتجاه المجلة المخصّصة للأعمال الشعرية والنثرية والحوارات والفنون التشكيلية، والتي تعد واحدة من مشروعات المنتدى، انطلاقاً من الإيمان بأن أهمية الكاتب تزداد في أزمنة الحصار، ويعنون بها أزمنة التمييز العنصري، وقمع الحريات، والاحتلالات الاستعمارية، وزمن انكماش الفضاءات الثقافية كما يحدث حالياً في الهند. وانطلاقاً من أن الكتاب والفنانيين، قد لا يكونون جنوداً، إلا أنهم يمتلكون أسلحة أيضاً، أسلحة أكثر تأثيراً في كثير من الأحيان.
يضاف إلى ذلك إيمان ثابت لدى أعضاء المنتدى، يعبرون عنه في أعمالهم الشعرية والروائية والفنية، بقوة الكلمة على التغيير، وبقوة الصورة وحُجرة الدراسة. وهذا هو السبب الذي يقف وراء تأسيس المنتدى، و"منبر الثقافة الهندي". وجاءت مجلة "محادثة" لنشر أفضل أعمال المعنيين بالشأن الثقافي الهندي ومنتجي الأعمال الثقافية والفنية في فضاء الإنترنت، حيث لن يكونوا بحاجة للخشية من التهديد أو الرقابة المتسلطة، أو الإقصاء من قبل سوق معني بتحقيق الأرباح قبل كل شيء.
وبالعودة إلى العدد الأخير بافتتاحيته عن أهمية الثقافة، وخاصة لبلد مثل الهند، نجد تأكيداً على أن الثقافة يجب أن تمتلك أكبر عدد ممكن من السرديات بالكثير من الأصوات المتباينة، بدءاً من الكلاسيكي الراسخ، فالهامشي، فالتقليدي، وصولاً إلى التجريبي. وأي متابع يجد أن هذا المنحى ينسجم مع واقع الهند الثري بمروياته المتنوعة، ولغاته التي تصل إلى ما يقارب 22 لغة رسمية، أشهرها الهندية والبنجابية والمالايلامية والتاميلية والبنغالية والجوجراتية والأوردية.
وأخيراً، تلخص الافتتاحية رؤية المنتدى وما ينشره في صحيفته بالقول: "أياً كانت لغتنا، أو النوع الأدبي أو الوسيط، سنستخدم مخيّلتنا بحرية لإنتاج ما نراه ذا معنى بالنسبة لزمننا الراهن. إننا نصرّ على حريتنا في الكلام والنقاش من دون عوائق. وبالنسبة لنا، ولقرائنا وجمهورنا، سويّة، ولكن بأصوات متنوعة، سنفسّر ونعيد تفسير الماضي الحامل لتراث سردياتنا المتنافسة المشترك، وبعملنا الإبداعي نناقش حاضرنا".