بعد إغلاقه في 2013 لإجراء أوّل عملية إصلاح كبرى في تاريخه، فتَح "المتحف الملكي لأفريقيا الوسطى"، في بروكسل، أبوابه من جديد أمام الزوّار، في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، باسم جديد "متحف أفريقيا".
اسم وشكلان جديدان يسعيان إلى طيّ صفحة الاستعمار. فهل تكفي هذه التغييرات للجزم بذلك، خصوصاً أن إعادة افتتاحه تأتي في وقتٍ يُثار جدلٌ حول مستقبل التراث الأفريقي الموجود في البلدان التي تحرّرت من الاستعمار الأوروبي منذ عقود عديدة؟
على بعد عشرة كيلومترات، تقريباً، من وسط بروكسل، يقع "متحف أفريقيا". توقّف المبنى عن استقبال الزوّار خلال خمس سنوات من الإصلاحات التي كان في أمسّ الحاجة إليها، فإضافة إلى عدم تجدّد محتوياته لما يقارب سبعة عقود، كان البُعد التمجيدي للاستعمار ظاهراً فيه وحادّ اللهجة بما تستنفره الذائقة الحديثة، وهو الذي سُمّي في البدء "متحف الكونغو"، قبل أن يتحوّل إلى "المتحف الملكي لأفريقيا الوسطى"، علماً أن كثيرين كان يفضّلون وصفه بـ"آخر متحف استعماري في العالم"، في نوع من الضغط على المشرفين عليه، على الأقلّ من أجل التخفيف من النبرة التمجيدية للاستعمار.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول الباحث خين كليبورت: "كان المتحف، في الأصل، عبارةً عن أداة قديمة للدعاية مصمّمة لتشجيع البلجيكيين على الذهاب لاستغلال ثروات الكونغو ورواندا وبورندي. وهو قصر شُيّد بتمويل شخصي من الملك ليوبولد الثاني عام 1910. وقد كان يحتوي على ما يُسمّى حديقة الإنسان؛ حيث جرى جلب مئتي كونغولي للعرض من قراهم التي أُعيد بناؤها. وقد مات سبعة منهم بسبب المرض والبرد".
يشير كليبورت إلى أن المتحف في حلّته الجديدة "يركّز، حالياً، بالكامل على قصّة الفترة الاستعمارية وعواقبها؛ فقد زادت المساحة بقرابة الضعفين، بينما يجري عرض 700 قطعة فقط، في وقت يمتلك 180 ألف قطعة إثنوغرافية. وذلك بهدف تغيير المعروضات كلّ موسم، وتمكين متاحف أخرى في العالم من عرضها".
وتُعدّ مجموعة القطع التي يحوزها "متحف أفريقيا" واحدةً من الأكبر في العالم، وتضمّ إضافة إلى القطع الإثنوغرافية، نحو عشرة ملايين عيّنة من الحيوانات والصور والأفلام والخرائط والمعادن. ويتم حالياً عرض واحدٍ في المئة فقط من هذه المجموعة الضخمة.
يسعى المتحف إلى تقديم القطع في سياقها التاريخي. فعلى سبيل المثال، في الجناح المخصّص للطقوس والاحتفالات، يجري شرح كل التقاليد ووضعها في إطارها حسب شهادات ومعلومات جديدة. تقول بامبي كوبنس، الخبيرة العلمية في "متحف أفريقيا"، لـ"العربي الجديد": "لقد انتقلنا من معرض للأشياء الميتة التي جرى تقديمها على أنها قادمة من أفريقيا من دون تاريخ، إلى معرض لعناصر حية مرتبطة بواقعنا المعاصر، وذلك بالتعاون مع خبراء من أصل أفريقي".
تضيف: "لم يعد المتحف يقدّم نظرة على "أفريقيا البلجيكية" السابقة، الكونغو ورواندا وبوروندي، بل نظرةً أكثر انتقاداً إلى تاريخ طويل يسبق حتى الفترة الاستعمارية"، كما تشير إلى أن عبارة "إيصال الحضارة" أصبحت محظورةً الآن فيه، مثلها مثل مجموعة من الخرائط الجغرافية التي تُسمّي الكونغو بـ"الكونغو البلجيكية"، أو التي تمجّد المستعمِرين.
من جهته، يشرح غويدو غريسيلس، مدير "متحف أفريقيا" لـ"العربي الجديد" أن الأخير "يُعدّ مساحة مادية وفكرية جديدة؛ فاليوم لدينا نظرة نقدية إلى الماضي الاستعماري. لقد كان نظاماً يقوم على الظلم، تديره حكومة عنصرية، ومشروع رأسمالي يقوم على استغلال الموارد الطبيعية والبشرية. وقد كان المتحف في صيغته السابقة يهدف إلى نشر رسالة استعمارية لسنوات عديدة، تقوم على القول بأن الثقافة الغربية متفوّقة على ثقافات أفريقيا".
يعترف غريسيلس بأنه "ليس من السهل تغيير الأشياء في هذا المبنى، حيث توجد العديد من القطع التي تمجّد الملك ليوبولد الثاني، وأخرى تُذكّر بما كان يُسمّى العمل الحضاري لبلجيكا. لكننا نتقدّم خطوةً خطوةً مع الباحثين الأفارقة لتغيير الوضع".
يأتي افتتاح "متحف أفريقيا" بينما يُثار جدل حول مستقبل التراث الأفريقي الموجود في الدول الاستعمارية. ويعتبر غريسيلس أنه "من غير الطبيعي أن أكثر من ثلثي القطع الأفريقية موجود خارج القارّة السمراء. نحن مستعدّون لتقاسم مقتنياتنا، وللقيام بجرد دقيق لطرُق الحصول على هذه القطع، لمعرفة ما إذا كانت قد وصلت بشكل قانوني أم لا".
في سياق متّصل، قدّمت النائبة في مجلس الشيوخ البلجيكي عن "الحزب الاشتراكي"، سيمون سوسكيند، بالتعاون مع رئيس المجموعة الاشتراكية في مجلس الشيوخ، كريستوف لاكروا، طلباً لإعداد تقرير لتحسين التعاون بين مختلف المتدخّلين، من مشرفي متاحف وخبراء آثار وجِهات رسمية، بخصوص موضوع القطع التراثية الأفريقية.
تزامن هذا الطلب مع إعادة فتح المتحف، وأيضاً مع عزم رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، جوزيف كابيلا، المطالبة بإعادة التراث الكونغولي. فهل حدث الأمر من قبيل الصدفة؟ تقول سوسكيند لـ"العربي الجديد": "أتى هذا الطلب من جانبنا بمناسبة صدور التقرير الفرنسي حول الموضوع نفسه، إضافةً إلى العديد من المقالات التي صدرت في الآونة الأخيرة حول الملف، وخاصة التزام ألمانيا حول هذه القضية في ما يتعلق بالمتحف الإثنولوجي في برلين"، مضيفةً أن "الوقت مناسب للتفكير في هذه القضايا، ودَورُ مجلس الشيوخ هو الاستماع إلى أشخاص يمكنهم تقديم خبراتهم".
من جانب آخر، تشير سوسكيند إلى أنه "لا توجد رغبة في الإشارة إلى مسؤوليات تاريخية. المسألة أساساً تتعلّق بفتح النقاش والتفكير. فنحن نعلم أن مئات الآلاف من القطع من الكونغو وغيرها من الدول، توجد الآن في مخازن "متحف أفريقيا"، ومنها عظام بشرية لزعماء القبائل الكونغولية الذين جرى قتلهم. ويتمثّل الهدف النهائي لهذا النهج في ضرورة الاعتراف العاجل بإرث الشعوب الأفريقية وحقّها في امتلاكه، وأيضاً في فتح صفحة جديدة مع ملايين الأفارقة الذين يعيشون في أوروبا".