"مانشستر عن طريق البحر"... تجاوز لا يأتي

02 مارس 2017
كيسي أفليك (فاليري ماكن/ فرانس برس)
+ الخط -
في أغلب الأفلام السينمائية التي تناولت المآسي الكبيرة في حياة البشر، الموت أو الفقد أو الحوادث، تدور الحكاية غالباً حول "كيفية التجاوز"، تُسرد الأحداث في تتابع مُنتظم هدفه النهائي هو الوصول بالشخصية (أو الشخصيات) الرئيسية إلى "تصالح"، في الحياة لا يحدث ذلك، أحياناً تكون بعض الحوادث أكبر كثيراً من قدرتنا على تجاوزها، نظل عالقين في تلك اللحظة، ولا نتجاوزها أبداً، ولأن فيلم Manchester by the sea هو فيلم "حياة" (بكل ما تحمله من روح ومعنى وصدق) فإنه عن التجاوز الذي لا يأتي والفقد الذي نَعلق فيه إلى الأبد.

من الصعب أن يتذكر المرء فيلماً أكثر تأثيراً في السنوات الأخير من Manchester by the sea، أو أداءً قريباً من القلب بقدر أداء كيسي أفليك، ومكمن تأثير الفيلم وقربه ينبع من عدم محاولته، في أي لحظة، استدرار العواطف، أو الضغط على أوتار الحزن عند المتفرج، فهو يسرد حكاية مأساوية جداً بأقل قدر من المأساة، وهو ما يترك أثراً لا ينسى عند المتفرج. 
يحكي الفيلم عن لي تشاندلر، العامل البسيط في مدينة بوسطن، والذي يتلقى مكالمة تليفونية تخبره أن يعود إلى مدينته الأصلية مانشستر بعد وفاة أخوه الوحيد، وعند عودته يفاجأ بأن الأخ (الذي رحل بسبب أزمة قلبية مُزمنة) عهد إليه أن يكون وصياً على ابنه المراهق "باتريك" حتى يصل إلى 18 عاماً، وصاية يرفضها "لي" بقوة.

سيناريو كينيث لونرغان (الكاتب والمخرج) هو الجانب الأساسي من عظمة هذا الفيلم، يراهن بكل ما يحمله من موهبة على قدرته في خلق عمل نابض جداً، دون مشاهد زاعقة، ودون تحولات لا تحدث إلا في الأفلام، ولكن بالكثير جداً من (الحياة)، يجعل المحور الأساسي للعمل هو لي تشاندلر. الرجل الذي تنقسم حياته بوضوح إلى "ما قبل" و"ما بعد"، وهو الأمر الذي يعمل عليه لونرغان مع المونتيرة جينفر ليم لسرد متواز وحساس جداً للحياتين، من خلال ذلك يعكس: علاقته بأخيه وزوجته، وابن أخيه. والمدينة. المدينة –التي يحمل الفيلم اسمها-هي انعكاس لكل "ثقل الماضي". ذلك الثقل الذي لا يريد "لي" مواجهته. وليس فقط لا يستطيع، إنها ذكرى الأماكن والبيوت والشوارع والسماء التي عاش تحتها حياته كلها، ولذلك فهي تذكره بالـ"حادثة"، باللحظة التي دَمَّر فيها كل شيء دون أن يقصد، والعودة إليها الآن هي الجحيم بعينه.
الزوجة/الطليقة في الفيلم (بأداء مدهش في عدة مشاهد فقط من ميشيل وليامز) هي عكس لي، هي من مرت معه بنفس المأساة، ولكنها استطاعت أن تقوم وتُكمل، بفعل الذنب الأقل على الأغلب، لازالت تحبه، ولازال يحبها، ولكن الأمور –كالحياة- أعنف وأقسى كثيراً من أن يكون الحب سبباً كافياً للاستمرار إذا كنا نحمل وراءنا "حطام حياة سابقة" كهذه. الأخ جو هو السند، هو الشيء الذي أبقى "لي" حياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، المشاهد البسيطة التي يقوم فيها بتأسيس شقته في بوسطن أو الجلوس جانبه بعد "الحادثة" لها طاقة خارقة لرجلٍ يحاول جمع أشلاء أخيه، وهو الأثر الذي يمتد إلى النهاية.

وفي الأخير هناك علاقة "لي" بـ"باتريك"، ابن الأخ الذي يجسد واحدة من أجمل صور المراهقين التي عرفتها السينما على الإطلاق، تداخل مضبوط جداً (بفضل أداء لوكاس هيدج المرشح للأوسكار أيضاً) بين الرهافة والمسؤولية واللهو والعاطفة، باتريك هو محاولة لي الأخيرة في أن يعود حياً، أن يجد فيه ابناً بدلاً من الثلاث بنات اللاتي تسبب في فقدهن، من المُتاح الآن أن "يحاول"، أن يجلس معه في البيت، أن يعملا معاً على المركب، أن يحاول طَيّ المأساة التي مرّ عليها سنوات، ولكن الأمور أثقل كثيراً من بساطة التصالح هذه، تماماً كثقل نظرة كيسي أفليك العظيمة وهو ينظر لباتريك قرب ختام الفيلم وهو يهز رأسه بأسى ويقول له "لا أستطيع تجاوز ذلك.. لا أستطيع. أنا آسف".




المساهمون