"لوموند": قرصنة محيّرة وغريبة لموقع نووي تستنفر الأمن الفرنسي والألماني

03 نوفمبر 2018
عُهد بالقضية إلى الأمن الداخلي (جاب آرينز/Getty)
+ الخط -
كشفت صحيفة "لوموند"، أمس الجمعة، عن وثائق سرية قالت إنها توصلت إليها في شراكة مع بعض الصحف الألمانية، وتتعلق بعملية قرصنة غريبة لوثائق مرتبطة بموقع طمر النفايات النووية في بلدة "بور" الفرنسية. ولكن الغموض لا يزال يلف طبيعة المسؤولين عن هذه القرصنة وجنسياتهم وغرضهم الحقيقي ودرجة التهديد، مما استدعى استنفاراً وتعاوناً أمنياً فرنسياً وألمانياً، وأخيراً تدخل "الإدارة العامة للأمن الداخلي".

تتحدث الصحيفة عن رسالة إلكترونية غريبة تلقاها 1700 مستخدم في شركة "أنجيروب"، وهي شركة كبرى في الهندسة، يوجد مقرها في روي-مالميزو (ضاحية باريس)، ليلة العاشر وصباح الحادي عشر من يونيو/ حزيران الماضي.

وتبدأ الرسالة الإلكترونية بـ: "عزيزي/عزيزتي المستخدم في أنجيروب"، قبل أن تصل إلى إدانة النتائج البيئية لمشروع طمر النفايات النووية في بلدة "بور" (Bure) في منطقة "لاموز" (Meuse)، الذي يحمل اسم (Cigéo)، والتي تعتبر "انجيروب" أحد المتعاقدين الرئيسيين. ثم تزداد لهجة الرسالة تهديداً وهي تتطرق إلى "أعمال مختلفة (قادمة) تستهدف شركتكم وكذا الأشخاص المنخرطين في مشروع "Cigéo"، ثم تنتهي الرسالة بدعوة العاملين إلى نقل كل المعلومات السرية، التي توجد بحوزتهم حول مشروع "Cigéo"، إلى عنوان إلكتروني أكثر أمنا.

وتحمل الرسالة توقيع مجموعة تطلق على نفسها "وُحُوش Cigéo". وفي مدونة افتتحت حديثاً، يدعو التجمع معارضي مشروع الطمر إلى خوض حملة ضد المتعاقدين، الذين يُهيّئون، على موقع "بور"، الورشة العملاقة لطمر النفايات النووية.


وقد شهد هذا المشروع، الذي تعرض لانتقادات شديدة، حملة مناهضة قوية من ناشطين إيكولوجيين وأيضاً من قبل السكان، رافقتها تظاهرات منظمة وأحياناً عنيفة. كما يُقرَأ في الموقع: "كل شكل من أشكال العمل محل ترحيب، فكونوا خلاّقين ومصمّمين على الحصول على تعهد من "انجيروب" بالانسحاب من مشروع "Cigéo" ومن كل المشاريع الملحقة"، دون تحديد لأشكال العمل المستقبلية.    

وقد كان تعامُلُ "أنجيروب"، كما تنقل "لوموند"، مع هذه الرسالة الإلكترونية جديّاً، ورَدُّ فِعلها سريعاً. ويعترف المدير العلمي والتقني للشركة، فرانسوا لاكَرْوا، بأنّ "لهجة هذه الرسائل كانت تهديديّة، بل وأقلقت مُساعدينا، الذين لم يكونوا يتوقعونها". ثم بادر الرئيس المدير العام، إيف ميتز، إلى مناشدة العاملين بالابتعاد عن كل ردة فعل وألا يجيبوا، بأي طريقة على هذا النوع من الرسائل.

وفي الأيام التي تلت وصول هذه الرسائل، وُضِعت "خلية مُرافَقَة" من أجل العاملين، وشُغِّلت شركة متخصّصة في الأمن المعلوماتي من أجل فحص أنظمتها، واستبدال كل كلمات السر للبريد الإلكتروني.

ويشرح لاكَرْوا أن ردود الفعل الأولى كانت منصبة على تقييم الحماية الجسدية. ثم تمت الاستعانة بخبراء في الأمن السيبراني من أجل فهم ما جرى.

وخلال هذه الفترة لم تتوقف التعبئة ضد مشروع Cigéo، في بلدة "بور". وفي 16 يونيو/حزيران، جرت تظاهرة في "بار-لي-دوك"(منطقة "موز") شملت 2000 شخص، تخللتها احتكاكات بين عشرات من المتظاهرين وقوات الأمن. وفي العشرين من نفس الشهر، قامت الشرطة بحملة مداهمات واعتقالات بين أوساط معارضي المشروع، أسفرت عن اعتقال عشرة أشخاص، من بينهم محام.

وفي اليوم التالي نشرت مدونة "وحوش Cigéo" رسالة بعنوان: "أنجيروب ليكس"، متضمنة رابطاً يحيل إلى العديد من الجيغابايتات من الوثائق الداخلية لـ"أنجيروب"، التي تم إرسالها، عن طريق الإيميل، إلى نشطاء، مع رسالة اعتراف بالمسؤولية، زاخرة بأخطاء لغوية، تؤكد بأن عملية النشر تمّت "كردّ فعل على مداهمات 20 يونيو/حزيران"، في بلدة "بور".

وفي الأيام التي تلت، ظهرت على الشبكة وثائق أخرى، وكلها في نطاق موقع (SystemAusfall)، الذي ينشّطه تجمع ألماني يقدّم الوسائل المعلوماتية الحرّة لمن يتقدم بالطلب، وهو تجمع غير مرتبط، بشكل خاص، بالحركات الإيكولوجية. ومجموع ما تم نشره يقترب من 80 جيغابايت من الوثائق، تقول "لوموند" إنها اطلعت عليها.

ونجد فيها جذاذات إدارية وملفات مرتبطة بالعديد من الأوراش العامة، والبعض منها يبدو حساساً لأول وهلة، وتتعلق بمحطة فيسينهايم النووية، وبمنشآت بلدة "بور"، أو بمراكز سجنية فرنسية.  

وفي تلك الأثناء تقدمت "انجيروب" بشكوى. وقد اكتشف المحققون المتخصصون منافِذَ غير مسموح لها إلى شبكتها الداخلية. ومن جهتها رصدت "الوكالة الفرنسية لأمن شبكات ومعلومات الدولة"، والتي تمنح خبراتها التقنية للشركات التي تعمل في الميادين الحسّاسة، نشرَ بعض الوثائق. وفي 3 يوليو/تموز، فتحت شعبة نيابة باريس المكلفة بمكافحة الجريمة السبيرانية تحقيقاً، وطلبت المساعدة من نظيرتها في كولونيا، من أجل وقف نشر الجذاذات وجمع المعطيات التقنية للخادِم.

وقد أخذ القاضي الألماني في كولونيا، الذي نظر في الطلب الفرنسي، القضيةَ، كما تقول "لوموند"، مأخذ الجدّ. ثم كتب في تقريره الذي تسلمته شرطة دورتموند، حيث يوجد أحد الخوادم التي يستخدمها SystemAusfall، أنّ "الوثائق المنشورة تتضمن خطط أربعة سجون فرنسية ووثائق حول مشروع Cigéo والبنى التحتية في المفاعل النووي بفيسينهايم".   

وعلى وجه السرعة، وبعد خمسة وأربعين دقيقة، فقط، من تلقيها الفاكس من كولونيا، في 4 يوليو/تموز، تقدمت شرطة دورتموند إلى المركز الثقافي "لانجر أوغست"، الذي يضمّ عدة جمعيات، ومنعت الحاضرين من المغادرة، وحطّمت باب قاعة الخادم، التي تشغّلها الجمعية العلمية Wissenschaftsladen Dortmund. ثم غادر بعدها المحقّقون وبحوزتهم عدة أقراص صلبة وقرص وامض (USB)، وبعد أشهر، برّرت وزارة الداخلية تفتيشها بوجود "تهديد للأمن القومي" الفرنسي.

ثم تتساءل الصحيفة، بعد كل هذا التعاون الأمني الفرنسي الألماني السريع، عن مستوى الحساسية الحقيقية لهذه الوثائق؟

ثم تجيب بأنه خلافاً لما اعتقدته نيابة كولونيا، "لا تتضمن الوثائق تفاصيل حول البنى التحتية لفيسينهايم، ولكن كشفاً لمبلغ التعويض الذي ستحصل عليه شركة (EDF) حين ستغلق أقدم محطة نووية فرنسية، سنة 2022، على أبعد تقدير. بعض الجذاذات المرتبطة بمشروع Cigéo، الذي تتكفل به الوكالة الوطنية من أجل إدارة النفايات الإشعاعية (Andra) والذي يتعاون معه مكتب دراسات "انجيروب" منذ عدة سنوات، سريّةٌ، لكنها لا ترقى إلى مستوى بالغ الحساسية".


كما نعثر فيها على العديد من العناصر حول المَخاطر الطبيعية وتأثيرات المشروع والتخطيطات المدروسة من أجل نقل "الطرود" الإشعاعية، وتشكيل السراديب وتنظيم المنشآت السطحية أو إنشاء محوّل كهربائي.

تعلق الصحيفة بأنه "يتعلق الأمر بمعلومات، أكثرها مفتوح على موقع Andra نفسه".

ولكنّ الشيء غير المنتظر، يتعلق بجذاذة تَعرض تفاصيل أراضٍ زراعية وغابوية معنية بتوسع هذا المشروع، وتتضمن أسماء مالِكيها ومستثمريها، مع إضافة عبارة "أمْكن التحكم فيه" و"قابل للتحكم فيه" و"من الصعب التحكم فيه". صفات يُفهم منها أنها لا تتعلق فقط بالسيطرة على العقار، ولكن أيضاً بمالكي الأراضي، الذين يتمّ تحديدُهم باعتبارهم مستعدين أو غير مستعدّين للتخلي عن هذه الأراضي. وهو إجراءٌ انتقده بعضُ المعنيين بالأمر، والذين اطّلعوا على هذه القائمة، باعتباره "نوعا من كشف القوائم" (أمام الجمهور).  

كما تكشف وثيقة أخرى عن اجتماع، عقد يوم 12 مارس/آذار، جرى خلاله دراسة مخاطر عملية لمعارضي Cigéo الراغبين في تأخير الأشغال ونشر نضالهم في وسائل الإعلام. وتمّ تقديم "توصيات" من أجل منع "عمل تخريبي"، قد يستهدف، مثلاً، وصول وسائل الحفر والرفع أو نوع الوحدات النباتية التي يجب تجنبها.

وتعترف الصحيفة الفرنسية: "هذه الصفحات تسلّط، في الواقع، الضوءَ على بعض مَظاهر ممارسات وانشغالات "أندرا" في مواصلة مشروع Cigéo، أكثر مما تكشف عن معلومات حساسة، حقيقة.

الحصيلة مشابهة فيما يخص الوثائق المرتبطة بتصميم أو إصلاح ثلاثة سجون فرنسية، في "بوردو-غرادينيان" و"أورليان-ساران" و"لوترباك". كما أن "انجيروب" كانت على معرفة بمعطيات سرية، مثل تلك التي تتطرق لمشاكل الإسبست في سجن "غرادينيان".

ويبدو أن المخاطر لم تكن بالحجم الذي تصوّره الكثيرون، وهو ما تؤكده الصحيفة الفرنسية: "إن الوثائق التي تبدو أكثر حساسية، من بين الخطط التفصيلية عن المركز السجني الذي سيفتتح في لوترباك، والتي تتضمن مواضع كاميرات المراقبة بالفيديو، ليست من الحساسية كما يُتصوَّر". وتنقل عن فرانسوا لاكروا اعترافه، بـ"أن الأمر يتعلق بـ"ملفّ من أجل مسابقة التشييد تم فقدانه". وإذن، فليست هذه الخطط هي المستعملة، حالياً، من أجل تشييد المركز السجني".

ويؤكد لاكَروا "أن نظامنا المعلوماتي يتضمن مستويَين للتوثيق، إنه مُقسَّمٌ. وإنه من غير السارّ رؤية المعطيات وهي تتعرض للسرقة، ولكن هذا لا يمثّل سوى عدد قليل جداً من المشاريع".

تتساءل الصحيفة الفرنسية عمّن يختفي وراء نشر الوثائق المسروقة من "أنجيروب"؟ وعمّن قام بعملية السرقة؟

وتجيب: "الإشارات الأكثر وضوحاً إلى ناشط أو ناشطين معادين للنووي. ولكن كثيراً من التفاصيل تبعث على الشك، ومنها أن هذه الوثائق تعرضت للسرقة قبل البدء في إرسال الرسائل إلى مستخدمي "أنجيروب".

وحسب لاكَرْوا فإنّ الهجوم الذي استهدَف أنظمة الشركة كانَ "مُعدّاً لهُ. لم يكن استثنائياً من الناحية التقنية، ولكن مستواه كان عالياً". إلاّ أن هذا التجمع الذي يعتبر وراء إطلاق "وحوش Cigéo"، تميّز، حسب تاريخية تعبئته، بميله إلى العمل المباشر على حساب قدراته على القرصنة: فقد أعلن، بشكل أساسي، عن عمليات سدّ وحصار وتدمير ممتلكات، وكتابة شعارات.  

هل هي صدفة، أن تجري في يوم 20 يونيو/حزيران، سلسلة من عمليات التفتيش والمداهمات في ألمانيا، مستهدفة المدافعين عن الحريات الرقمية في إطار ملف آخَر مرتبط بـ (noblogs.org

ولكن هذه العمليات، كما ترى الصحيفة الفرنسية، "كانت ترتكز على تبريرات تقنية شاذّة- فاتَّهَمُ عددٌ من النشطاء الشرطةَ الألمانية بأنها كانت تريد، بشكل عام، تجميع معلومات عن النشطاء الألمان. كما اتُّهِمت الشرطةُ بأنه كانت لديها أهدافٌ خفيّةٌ، وانتهى الأمر بالعدالة الألمانية إلى إلغاء هذه التحريات.

وقد أصيب التجمع الألماني الذي ينشّط موقع (SystemAusfall) بالصدمة لأنّ الخَوادم تمَّ حجزُها من طرف الشرطة الألمانية من دون إنذار مسبق. وترى أوساط في الجمعية أنه كان من الأهْوَن إرسال إيميل يخبر بوجود مشكل مع الموقع الذي تقوم باستضافته. ولكن السلطات لم تكلف نفسها هذا العناء، وأجرت تفتيشاً.

ولكن الغلّة لم تكن كبيرة بالنسبة للمحققين، فالأقراص المصادَرة كانت مشفرة بطريقة متينة.   

وعلى الرغم من مرور خمسة أشهر على سرقة الوثائق، تكتب صحيفة "لوموند" أن "لغز هوية  القرصان أو القراصنة لا يزال دون كشف". وتتساءل: "هل يتعلق الأمر بناشطين فرنسيين أو ألمان أو إيطاليين، أو بمصدر آخر؟

إلا أن الصحيفة تَستدرك بأن "اعتقالات 20 يونيو/حزيران تم استخدامُها ذريعة لعملية نشرٍ كان مُقرَّراً لها منذ فترة طويلة. وإذن فإن الفاعل أو الفاعلين، الذين يقدّمون أنفسهم باعتبارهم نشطاء معادين للنووي، كانوا قد اتصلوا، بصفة سرية، بمُضيف الخدمة من بداية شهر يونيو/حزيران من أجل طلب فضاء تخزين كبير".    

وإذا كانت آثار عملية استخباراتية صناعية أو دولتيّة، ليست هي الأرجح، فإنها ليست سخيفة بالكامل.

إن قطاع الطاقة، كما تشدد لوموند، "يشكل موضوع اهتمام خاص من قبل أجهزة الاستخبارات وأقسام السبيرانية في الجيوش الأجنبية"، و"إن حمايَتهُ هي إحدى الأولويات الرئيسية لدى وكالة Anssi". وإذن، وهذه هي الخاتمة: "فإن التحقيق حول قرصنة "أنجروب" يتواصل. وقد عُهِدَ به إلى "الإدارة العامة للأمن الداخلي".

دلالات
المساهمون