لعل الحدث الثقافي الأبرز في ألمانيا هذه الأيام هو إطلاق فيلم "لقد عاد"، الذي يدور حول رجوع أدولف هتلر إلى الحياة، بعد 70 عاماً من انتحاره ونهاية مشروعه، بالرغبة نفسها في تغيير الألمان.
منذ أسابيع، غزت الومضات الإعلانية للفيلم القنوات والمواقع الألمانية، وهي تصوّر هتلر وهو يستعمل الهاتف الجوّال أو يشارك في برامج الألعاب التلفزيونية.
على مستوى تناول الصحافة الثقافية في ألمانيا للحدث، صبّت معظم القراءات في إطار الربط بين ما يطرحه الفيلم، والمرحلة التي تعيشها البلاد اليوم، خصوصاً أن فيلم المخرج دافيد فنينت لم يتحاش النقاط الحساسة، بل يبدو كأنه تعمّد أن يوجّه كاميراته إليها.
يستفيق هتلر (تمثيل أوليفر مازوكي)، في بداية الفيلم، في إحدى حدائق برلين. وحين ينظر من حوله، لا يعجبه حال الألمان. هذا الإسقاط ينتبه إليه نقّاد الفيلم، حيث أن من يعود إلى سيرة زعيم النازية، وهي أشهر من نار على علم في بلاده، يتذكّر بأن هتلر حين عاد من التجنيد (بعد خوض الحرب العالمية الأولى) لم يعجبه حال الألمان، فقرّر أن "ينقذ الأمة".
التقاطع يظهر أيضاً عند الحديث عن "الظرف الاقتصادي"، فصعود هتلر في عشرينيات القرن الماضي، قام على استغلال الأزمة الاقتصادية التي ستبلغ ذروتها في 1929، وعلى شعار "تهديد العنصر الألماني في أرضه التاريخية" باختلاطه باليهود والسلاف. أشياء كثيرة من ذلك متوفرة في الحاضر، بداية من تبعات أزمة 2009، وصولاً إلى موجة اللجوء السوري.
"هتلر الجديد" أراده فنينت شخصية كوميدية، لذا أمدّ خطابه بمنسوب كبير من الكلمات السوقية. يلعب الفيلم أيضاً على انتقالات مثيرة بين الواقع والخيال، فهتلر الذي يعود إلى الحياة، يُنظر إليه بادئ الأمر كمجنون متنكّر في هيئة الفوهرر، قبل أن تكتشف أمره قناة تلفزيونية، وتحاول أن تصنع منه حدثاً رهيباً، دون أي اعتبارات للأمن العام.
الفيلم ينتقد الإعلام من هذه الزاوية، ووكيف أن أولويّته هي الإثارة ولو على حساب أية مصلحة أخرى. تأخذ القناة التلفزيونية هتلر، مع فريق تصوير، في جولة في كامل ألمانيا. هنا، يستعمل فنينت تقنية الريبورتاج الحي، فيمتزج الواقعي بالخيالي بطريقة بهلوانية، لنرى هتلر في شوراع برلين أو في قرى ألمانية صغيرة، يتداخل بالمارة، يجادلهم ويلتقطون معه صور سيلفي.
هذه الحيلة، تمكّن من دراسة صورة صاحب كتاب "كفاحي" في الذهنية العامة وتحوّلاتها؛ إذ نكتشف فئات تأخذ عودته كمزحة سمجة، وأخرى تفرح بذلك.
إظهار كل هذا على الشاشة وطرحه في قالب فكاهي، يدفع النقاد إلى التفكير في نتائج هذه اللعبة، وأي شحنة سيلقيها الفيلم في الواقع، خصوصاً في الظروف الحالية، مع تبلور العنصرية في منظمات جديدة، أبعد من الشكل الحزبي، أهمها منظمة "بيغيدا" (وطنيون ضد أسلمة الغرب).
اقتبس فنينت فيلمه عن روايةٍ لـ تيمور فيرمس بالعنوان نفسه، صدرت في 2013، ولاقت نجاحاً لافتاً. لكن الانتقال من نص مكتوب إلى الشاشة؛ هو مثل الانتقال من البيت إلى ساحة عامة، وهنا إشكال آخر يطرحه الفيلم. إنه يدفع بنقاش عودة الميولات العنصرية في ألمانيا من الساحة الثقافية والسياسية إلى المجتمع برمّته.
اقرأ أيضاً: العودة إلى غارودي