لم يخطر ببالي في يوم من الأيام مجرد زيارة أرفف الكتب الفانتازية في أي مكتبة، ربما لشعور بالازدراء منسرب في اللاوعي، قد يكون مصدره تسيّد الأدب الواقعي المشهد الأدبي تقريباً في كل أرجاء العالم، وانعكس بالتالي على ذوقنا نحن القراء. لكن بدا لي مؤخراً أنني أينما التفتُّ حولي أجد سلسلة رواية "لعبة العروش" لمؤلفها الأميركي جورج آر آر مارتن تطاردني في كل مكان، من عالم السياسة والحروب، ومروراً بالصحافة وحتى الرياضة. مثلاً، عندما خاطب نتنياهو الكونغرس الأميركي ليقف ضد الاتفاق النووي الإيراني، شحذ ذخيرته البلاغية وقال إن داعش وإيران تلعبان "لعبة عروش مروعة" في الشرق الأوسط. وعندما فرض الغرب مزيداً من العقوبات على روسيا، عمد الدوما إلى حظر دراما "لعبة العروش" التلفزيونية، وعلّق بوتين على ذلك قائلاً "هذا بالتأكيد ليس بالقرار الهيّن، لكن علينا فرض ما بوسعنا من عقوبات على أميركا. إن حظر "لعبة العروش" أمر صعب، خاصة بعد متابعة اللحظات الدقيقة التي جرت خلال الموسم الخامس (من الحلقات التلفزيونية). لكن عندما يستغل الغرب كل فرصة لإيذائنا علينا محاربته بعقوبات قاسية". وفي روسيا أيضاً تقول صحيفة "أزفستيا" واستناداً إلى سجل المواليد الرسمي، إن كثيراً من الروس باتوا يطلقون أسماء شخصيات "لعبة العروش" على مواليدهم.
حمّى "لعبة العروش" هذه وصلت أيضاً إلى البيت الأبيض الذي نشر صورة لأوباما جالساً على "العرش الحديدي"، الذي يمثل رمز القوة المطلقة والمُتنافس عليها. وسائل الإعلام هي الأخرى، حتى الرصين منها، أصيبت بهوس "لعبة العروش". فمجلة الإيكونومست عنونت تقريراً مطولاً حول المنافسة الضارية بين أبل ومايكروسوف بـ"لعبة أخرى للعروش"، "فورين بوليسي" نشرت مقالاً بعنوان "ما الذي يمكن لـ"لعبة العروش" أن تقوله لنا حول السياسة العالمية؟"، ثم عناوين كثيرة مثل: "الربيع العربي يشهد شتاءً مثل شتاء لعبة العروش"، "الهجوم السعودي على اليمن و"لعبة العروش"، "التحركات التكتيكية ولعبة العروش: أوكرانيا وروسيا". واشنطن بوست نشرت مقالاً طريفاً أسقطت فيه أحداث وعائلات وحروب "لعبة العروش" على الفرقاء في الشرق الأوسط.
كل هذا أشعرني بنقص معرفي على نحو ما، فأنا لم أقرأ "لعبة العروش" لمؤلفها الأميركي جورج آر آر مارتن، كما لم أتابعها في نسختها الدرامية المتلفزة التي أنتجتها شركة أتش بي أو الأميركية. لكني صدمت عندما عزمت على اقتحام هذه الملحمة الفانتازية، فهي تقع في خمسة أجزاء (واحد منها بمجلدين)، وكل منها يتجاوز ستمئة صفحةّ! استجمعت شجاعتي، وما إن خضت غمار الجزء الأول من "أغنية الجليد والنار"، حتى اكتشفت أن لا طاقة لي على التوقف عن القراءة لا ليلاً ولا نهاراً، لقد أصابني ما أصاب كثيرين في أرجاء العالم، فهذا الكتاب أوقعني في شباكه ولم أستطع الفكاك منه إلا بعدما قلبت الصفحة الأخيرة من الصفحات التي قاربت السبعة آلاف.
ابتدع مارتن عالماً كاملاً بقاراته وبلدانه وبحاره، وصنع أحداثه ضمن خلفية تاريخية تشبه إنجلترا في العصور الوسطى. يدور محور القصة الأساسي حول الحروب والدسائس والمكائد التي تجري لأجل السيطرة على "العرش الحديدي" الذي يكفل لصاحبه خضوع ممالك قارة "ويستروس" الست. إنها قصة الحصول على السلطة وممارستها، ومن يملكها، ومن يريدها، وأصناف الأشخاص الساعين لها. قصة تحوّل الأفراد فور وصولهم للسلطة إلى طغاة مستبدين، أو عندما تثير فيهم نوازع سايكوباثية؟ في المقابل، هي أيضاً قصة تكشف لنا كيف يمكن للمهمّشين المتسلحين بالذكاء والدهاء والمكر اختراق مراكز السلطة ومحاربة من يملكونها ويستخدمونها بشكل بشع.
تتجلّى عبقرية مارتن في ملحمته الفانتازية برفضه تبني صورة للعالم تقوم على ثنائيات الخير والشر أو الحق والباطل. ولأن الصراع على العروش يقوم على مبدأ الصفرية "إما الفوز أو الموت" تماماً كما لخّصه مارتن على لسان الملكة "سيرسي"، فإن مارتن لا يتدخل لنصرة الحق أو النبل إن لم يكن جديراً بكسب اللعبة. وقصة "نيد ستارك" خير شاهد على ذلك، فرغم ما يمثله من حق ونبل وفروسية إلا أنه استراتيجي ساذج للغاية. فهو بصفته نائباً للملك يكشف سراً رهيباً من شأنه تحطيم أعدائه في القصر الملكي الذي يمور بالمكائد والدسائس، فماذا يفعل حينها؟ يذهب إليهم مباشرة ويهددهم بأنه سيطلع الملك على السر، ولكنه لنبله يمنحهم فرصة ترك القصر؟ هكذا دفعة واحدة لا يكتفي بإطلاع أعدائه بكل ما يعرف بل يفضح أيضاً ما ينوي القيام به. طبعاً يتحرك هؤلاء بلمح البصر، فيقتلون الملك وينصّبون ملكاً جديداً، ثم يتهمون نيد بالخيانة ويقطعون رأسه.
الأخلاق في عالم مارتن الفانتازي مركبة ومعقدة، فحروب "لعبة العروش" ملتبسة وكذلك حال الرجال والنساء الذين يدشنونها، والآلهة التي تتابع ما يفعلون بلهو واستمتاع. وشخصيات "لعبة العروش" ليست ذات بُعد واحد، فحتى النبيل من بينها، تدور في دواخله صراعات الخير والشر ولا يتورّع عن ارتكاب الجرائم. يقول مارتن في مقابلة معه "دائماً ما أتفق مع قول ويليام فولكنر إن ما يستأهل الكتابة عنه هو أمر واحد لا غير، إنه صراع الوجدان الإنساني مع نفسه. هذا هو مرشدي الرئيسي في الكتابة، أما ما تبقى فهو مجرد رتوش تجميلية لا أكثر. يمكن للكاتب أن يستعين بالتنانين أو الكائنات الخرافية أو سفن الفضاء أو حتى كتابة قصص واقعية، ولكنه في نهاية المطاف إنما يكتب عن الوجدان الإنساني وما يعتمل فيه من صراعات". تناقض الشخصيات ليس حصراً بكتابات مارتن بالطبع، ولكن لهذا الكاتب الجبار قدرة بارعة في تطوير شخصياته وإدهاش قرائه. فحتى أكثر شخصياته وحشية وقسوة وإجراماً وإثارة للكراهية والتقزّز، يحوّلها مارتن في مواقع مفاجئة إلى شخصيات تثير مشاعر الشفقة والحزن أو تستثير التضامن معها، وأحياناً ينقل القارئ من مربع الكراهية إلى موقع الحب والإعجاب بتلك الشخصيات.
يتفادى مارتن الوقوع في شرك "الأبوية" الكتابية، أو ممارسة سلطوية فوقية تزعم امتلاك الحقيقة والأجوبة. بل هو الكاتب الذي يورط قارئه في أسئلة صعبة وشائكة ولا يقدم له حلولاً أو أجوبة قطعية. فهو يعلق على "العرس الأحمر" في الجزء الأول من كتابه والذي تعرض فيه "روب ستارك" ملك الشمال وقادته إلى القتل غدراً وخيانة وتعديّاً على قيم الضيافة المقدسة في ذلك الزمان، قائلا "حاول أن تشرح لي لماذا قتل عشرة آلاف رجل في معركة أكثر نبلاً من قتل عشرات منهم في حفل عشاء؟ هذا سؤال مهم أردت من قرائي التفكير به... أنا لست بكاتب لديه أجوبة... ولكني كاتب يحب طرح الأسئلة".
رغم أجزائها الخمسة وصفحاتها التي تقترب من السبعة آلاف صفحة، إلا أن ملحمة مارتن زاخرة بالتشويق والإثارة وبقدرة مدهشة على مباغتة القارئ وصدمته. فالكاتب يوظّف ببراعة فائقة أدوات سردية تموّه القراء عن الاتجاه الذي ستمضي فيه القصة إلى نهايتها. فالنبوءات التي يبثّها مارتن كالوشم في جسد السرد مثلاً، قابلة للتأويل على أكثر من وجه، ناهيك عن أنها في الأساس قد تتحقق وقد لا تتحقق. وهكذا يتوه القراء في عملية تخمين متواصلة لما سيحصل دون مؤشرات قوية وقدرة على التنبؤ بما سيجري بالفعل. وممّا يزيد من الإثارة والمباغتة ويرفعها إلى درجاتها السردية القصوى هو جرأة مارتن ربما غير المسبوقة على قتل عدد كبير من أبطال ملحمته الذين يظن القارئ أنهم الأعمدة التي يقوم عليها بنيان القصة. فمارتن تركنا كقراء على طول الأجزاء الخمسة المنشورة نعتقد أن البطل "جون سنو" الذي رافقنا من بداية القصة شخصية محورية لا يمكن للقصة أن تستمر بدونها، لكنه صدمنا جميعاً عندما أقدم في نهاية الكتاب على قتلها. ليس من قارئ أو متابع للدراما التلفزيونية إلا وقد أصيب بصدمة بالغة وشعور بالفجيعة على نحو ما. وفي مقدمة هؤلاء شخصيات مهمة في العالم وعلى رأسهم الرئيس الأميركي باراك أوباما. فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية نقلاً عن مخرج الدراما التلفزيونية "لعبة العروش" ديفيد نوتر أنه قابل أوباما مؤخراً وقال "إنه المعجب رقم واحد بـ"لعبة العروش" في العالم... صافحني ووضع يده الأخرى على كتفي وقال "إنك لم تقتل جون سنو، أليس كذلك؟ فأجبته "سيدي الرئيس، جون سنو مات وشبع موتا".
ممّا لا شك فيه أن تحويل ملحمة مارتن إلى دراما تلفزيونية حقق لها انتشاراً في أرجاء العالم قاطبة، فهي في نسختها المرئية تعتبر من بين أنجح الأعمال الدرامية في تاريخ الإنتاج التلفزيوني، كما أنها الأكثر قرصنة عبر الإنترنت. وهذا إلى جانب قوة الكتاب ونجاحه، ما يمنح الأدب الفانتازي المكتوب بالإنجليزية زخماً وقوة ويحقق له مكانة مهمة إلى جانب الأدب الواقعي ويحرره نوعاً ما من نظرة دونية عانى منها طويلاً. فبعد عقود على انطلاق هذا الأدب في منتصف القرن الماضي على يد الإنجليزي جاي آر آر تولكين من خلال عمله الريادي "سيد الخواتم"، يأتي مارتن الأميركي وبخياله الجبار ليطور هذا الأدب ويقفز به قفزة عملاقة فيلقب بـ"تولكين الأميركي". ولعلّ كل هذا يثير في المرء التساؤل بحيرة عن حال الأدب الفانتازي العربي المعاصر الذي يكاد لا يُرى في المشهد الأدبي العربي الراهن. إذ رغم ثراء التراث الأدبي العربي بالقصص والحكايات الفانتازية الرائعة، مثل علاء الدين والمصباح السحري وملحمة الزير سالم وسيف بن ذي يزن وغيرها، إلا أن هذا الصنف الأدبي يمر في مرحلة جمود طويلة تكاد تجهز عليه ما لم يطل علينا "تولكين عربي" يعيد تدشين الفانتازيا العربية في العصور الحديثة.
ظل أن نذكر بأن مارتن ما يزال عاكفاً على كتابة الجزء السادس من ملحمة "لعبة العروش" أو "أغنية الجليد والنار"، وهو بعنوان "رياح الشتاء".
(كاتبة وصحافية فلسطينية)
حمّى "لعبة العروش" هذه وصلت أيضاً إلى البيت الأبيض الذي نشر صورة لأوباما جالساً على "العرش الحديدي"، الذي يمثل رمز القوة المطلقة والمُتنافس عليها. وسائل الإعلام هي الأخرى، حتى الرصين منها، أصيبت بهوس "لعبة العروش". فمجلة الإيكونومست عنونت تقريراً مطولاً حول المنافسة الضارية بين أبل ومايكروسوف بـ"لعبة أخرى للعروش"، "فورين بوليسي" نشرت مقالاً بعنوان "ما الذي يمكن لـ"لعبة العروش" أن تقوله لنا حول السياسة العالمية؟"، ثم عناوين كثيرة مثل: "الربيع العربي يشهد شتاءً مثل شتاء لعبة العروش"، "الهجوم السعودي على اليمن و"لعبة العروش"، "التحركات التكتيكية ولعبة العروش: أوكرانيا وروسيا". واشنطن بوست نشرت مقالاً طريفاً أسقطت فيه أحداث وعائلات وحروب "لعبة العروش" على الفرقاء في الشرق الأوسط.
كل هذا أشعرني بنقص معرفي على نحو ما، فأنا لم أقرأ "لعبة العروش" لمؤلفها الأميركي جورج آر آر مارتن، كما لم أتابعها في نسختها الدرامية المتلفزة التي أنتجتها شركة أتش بي أو الأميركية. لكني صدمت عندما عزمت على اقتحام هذه الملحمة الفانتازية، فهي تقع في خمسة أجزاء (واحد منها بمجلدين)، وكل منها يتجاوز ستمئة صفحةّ! استجمعت شجاعتي، وما إن خضت غمار الجزء الأول من "أغنية الجليد والنار"، حتى اكتشفت أن لا طاقة لي على التوقف عن القراءة لا ليلاً ولا نهاراً، لقد أصابني ما أصاب كثيرين في أرجاء العالم، فهذا الكتاب أوقعني في شباكه ولم أستطع الفكاك منه إلا بعدما قلبت الصفحة الأخيرة من الصفحات التي قاربت السبعة آلاف.
ابتدع مارتن عالماً كاملاً بقاراته وبلدانه وبحاره، وصنع أحداثه ضمن خلفية تاريخية تشبه إنجلترا في العصور الوسطى. يدور محور القصة الأساسي حول الحروب والدسائس والمكائد التي تجري لأجل السيطرة على "العرش الحديدي" الذي يكفل لصاحبه خضوع ممالك قارة "ويستروس" الست. إنها قصة الحصول على السلطة وممارستها، ومن يملكها، ومن يريدها، وأصناف الأشخاص الساعين لها. قصة تحوّل الأفراد فور وصولهم للسلطة إلى طغاة مستبدين، أو عندما تثير فيهم نوازع سايكوباثية؟ في المقابل، هي أيضاً قصة تكشف لنا كيف يمكن للمهمّشين المتسلحين بالذكاء والدهاء والمكر اختراق مراكز السلطة ومحاربة من يملكونها ويستخدمونها بشكل بشع.
تتجلّى عبقرية مارتن في ملحمته الفانتازية برفضه تبني صورة للعالم تقوم على ثنائيات الخير والشر أو الحق والباطل. ولأن الصراع على العروش يقوم على مبدأ الصفرية "إما الفوز أو الموت" تماماً كما لخّصه مارتن على لسان الملكة "سيرسي"، فإن مارتن لا يتدخل لنصرة الحق أو النبل إن لم يكن جديراً بكسب اللعبة. وقصة "نيد ستارك" خير شاهد على ذلك، فرغم ما يمثله من حق ونبل وفروسية إلا أنه استراتيجي ساذج للغاية. فهو بصفته نائباً للملك يكشف سراً رهيباً من شأنه تحطيم أعدائه في القصر الملكي الذي يمور بالمكائد والدسائس، فماذا يفعل حينها؟ يذهب إليهم مباشرة ويهددهم بأنه سيطلع الملك على السر، ولكنه لنبله يمنحهم فرصة ترك القصر؟ هكذا دفعة واحدة لا يكتفي بإطلاع أعدائه بكل ما يعرف بل يفضح أيضاً ما ينوي القيام به. طبعاً يتحرك هؤلاء بلمح البصر، فيقتلون الملك وينصّبون ملكاً جديداً، ثم يتهمون نيد بالخيانة ويقطعون رأسه.
الأخلاق في عالم مارتن الفانتازي مركبة ومعقدة، فحروب "لعبة العروش" ملتبسة وكذلك حال الرجال والنساء الذين يدشنونها، والآلهة التي تتابع ما يفعلون بلهو واستمتاع. وشخصيات "لعبة العروش" ليست ذات بُعد واحد، فحتى النبيل من بينها، تدور في دواخله صراعات الخير والشر ولا يتورّع عن ارتكاب الجرائم. يقول مارتن في مقابلة معه "دائماً ما أتفق مع قول ويليام فولكنر إن ما يستأهل الكتابة عنه هو أمر واحد لا غير، إنه صراع الوجدان الإنساني مع نفسه. هذا هو مرشدي الرئيسي في الكتابة، أما ما تبقى فهو مجرد رتوش تجميلية لا أكثر. يمكن للكاتب أن يستعين بالتنانين أو الكائنات الخرافية أو سفن الفضاء أو حتى كتابة قصص واقعية، ولكنه في نهاية المطاف إنما يكتب عن الوجدان الإنساني وما يعتمل فيه من صراعات". تناقض الشخصيات ليس حصراً بكتابات مارتن بالطبع، ولكن لهذا الكاتب الجبار قدرة بارعة في تطوير شخصياته وإدهاش قرائه. فحتى أكثر شخصياته وحشية وقسوة وإجراماً وإثارة للكراهية والتقزّز، يحوّلها مارتن في مواقع مفاجئة إلى شخصيات تثير مشاعر الشفقة والحزن أو تستثير التضامن معها، وأحياناً ينقل القارئ من مربع الكراهية إلى موقع الحب والإعجاب بتلك الشخصيات.
يتفادى مارتن الوقوع في شرك "الأبوية" الكتابية، أو ممارسة سلطوية فوقية تزعم امتلاك الحقيقة والأجوبة. بل هو الكاتب الذي يورط قارئه في أسئلة صعبة وشائكة ولا يقدم له حلولاً أو أجوبة قطعية. فهو يعلق على "العرس الأحمر" في الجزء الأول من كتابه والذي تعرض فيه "روب ستارك" ملك الشمال وقادته إلى القتل غدراً وخيانة وتعديّاً على قيم الضيافة المقدسة في ذلك الزمان، قائلا "حاول أن تشرح لي لماذا قتل عشرة آلاف رجل في معركة أكثر نبلاً من قتل عشرات منهم في حفل عشاء؟ هذا سؤال مهم أردت من قرائي التفكير به... أنا لست بكاتب لديه أجوبة... ولكني كاتب يحب طرح الأسئلة".
رغم أجزائها الخمسة وصفحاتها التي تقترب من السبعة آلاف صفحة، إلا أن ملحمة مارتن زاخرة بالتشويق والإثارة وبقدرة مدهشة على مباغتة القارئ وصدمته. فالكاتب يوظّف ببراعة فائقة أدوات سردية تموّه القراء عن الاتجاه الذي ستمضي فيه القصة إلى نهايتها. فالنبوءات التي يبثّها مارتن كالوشم في جسد السرد مثلاً، قابلة للتأويل على أكثر من وجه، ناهيك عن أنها في الأساس قد تتحقق وقد لا تتحقق. وهكذا يتوه القراء في عملية تخمين متواصلة لما سيحصل دون مؤشرات قوية وقدرة على التنبؤ بما سيجري بالفعل. وممّا يزيد من الإثارة والمباغتة ويرفعها إلى درجاتها السردية القصوى هو جرأة مارتن ربما غير المسبوقة على قتل عدد كبير من أبطال ملحمته الذين يظن القارئ أنهم الأعمدة التي يقوم عليها بنيان القصة. فمارتن تركنا كقراء على طول الأجزاء الخمسة المنشورة نعتقد أن البطل "جون سنو" الذي رافقنا من بداية القصة شخصية محورية لا يمكن للقصة أن تستمر بدونها، لكنه صدمنا جميعاً عندما أقدم في نهاية الكتاب على قتلها. ليس من قارئ أو متابع للدراما التلفزيونية إلا وقد أصيب بصدمة بالغة وشعور بالفجيعة على نحو ما. وفي مقدمة هؤلاء شخصيات مهمة في العالم وعلى رأسهم الرئيس الأميركي باراك أوباما. فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية نقلاً عن مخرج الدراما التلفزيونية "لعبة العروش" ديفيد نوتر أنه قابل أوباما مؤخراً وقال "إنه المعجب رقم واحد بـ"لعبة العروش" في العالم... صافحني ووضع يده الأخرى على كتفي وقال "إنك لم تقتل جون سنو، أليس كذلك؟ فأجبته "سيدي الرئيس، جون سنو مات وشبع موتا".
ممّا لا شك فيه أن تحويل ملحمة مارتن إلى دراما تلفزيونية حقق لها انتشاراً في أرجاء العالم قاطبة، فهي في نسختها المرئية تعتبر من بين أنجح الأعمال الدرامية في تاريخ الإنتاج التلفزيوني، كما أنها الأكثر قرصنة عبر الإنترنت. وهذا إلى جانب قوة الكتاب ونجاحه، ما يمنح الأدب الفانتازي المكتوب بالإنجليزية زخماً وقوة ويحقق له مكانة مهمة إلى جانب الأدب الواقعي ويحرره نوعاً ما من نظرة دونية عانى منها طويلاً. فبعد عقود على انطلاق هذا الأدب في منتصف القرن الماضي على يد الإنجليزي جاي آر آر تولكين من خلال عمله الريادي "سيد الخواتم"، يأتي مارتن الأميركي وبخياله الجبار ليطور هذا الأدب ويقفز به قفزة عملاقة فيلقب بـ"تولكين الأميركي". ولعلّ كل هذا يثير في المرء التساؤل بحيرة عن حال الأدب الفانتازي العربي المعاصر الذي يكاد لا يُرى في المشهد الأدبي العربي الراهن. إذ رغم ثراء التراث الأدبي العربي بالقصص والحكايات الفانتازية الرائعة، مثل علاء الدين والمصباح السحري وملحمة الزير سالم وسيف بن ذي يزن وغيرها، إلا أن هذا الصنف الأدبي يمر في مرحلة جمود طويلة تكاد تجهز عليه ما لم يطل علينا "تولكين عربي" يعيد تدشين الفانتازيا العربية في العصور الحديثة.
ظل أن نذكر بأن مارتن ما يزال عاكفاً على كتابة الجزء السادس من ملحمة "لعبة العروش" أو "أغنية الجليد والنار"، وهو بعنوان "رياح الشتاء".
(كاتبة وصحافية فلسطينية)