"سائد حبجوقة"، شاب أردني من أصول شركسية، في الثلاثينيات من عمره، يعمل في شركة إعلان أجنبية مرموقة في عمّان، يبدو شخصاً ناجحاً وطموحاً، كما أن حياته المهنية تسير بقدر ما تسمح له ظروف العمل في تسلّق السلم الوظيفي. يعارك الشاب الجميع في هذه البيئة، ويعيش حياة رتيبة بعض الشيء وإن كان مستقبله مضموناً: صديقة جميلة من طبقة اجتماعية ميسورة الحال، راتب شهري يضمن له حياة مرسومة في مستقبل يعِد بوضع مادي مريح.
لكن، على الجهة الأخرى، هناك سائد الملاكم، الذي يكتشف الملاكمة من خلال لقطات فيديو على الإنترنت، يهتم، ويسجّل في ناد بسيط ذي سمعة جيّدة في أحد أحياء عمّان الشرقية، ويبدأ بالمواظبة على التدريب حتى يكتشف أنه قادر على خوض نزالات فعلية بعد إعجاب مدرّبه به.
يقسم أبو طالب روايته بين هذين العالمين، ويشبكهما ببعض من دون مماطلة، ليدخل في صلب الحبكة الروائية. في الفصل الأول، نتعرّف إلى الملاكم الجديد، الخائف والمتوتّر والتنافسي الذي لا يتقبّل الهزيمة، يتدرّب ويستعد لنزاله الجدّي الأول. وفي الثاني، وقبل اكتشافه الملاكمة، نتعرّف إلى الموظّف الناجح في شركة الدعاية وهو يحضّر لاجتماع مهم مع أحد المتعاملين.
نقرأ معالم العالَمين وكيفية تفاعل شخصية سائد فيهما، لنبدأ بتتبّع رحلة اكتشاف ذاتي في سرد أبو طالب الروائي، وفي شخصية سائد واكتشافه الجديد الذي يضعه في مواجهة قرار مصيري يحدّد مستقبله.
لا يستمرّ الأمر طويلاً حتى نكتشف أن سائد يعارك ذاته الأخرى أيضاً على الحلبة؛ هناك سائد الناجح في الشركة وهناك سائد الملاكم الجديد البارع، لكن الخائف أيضاً، في مأزقه الوجودي، ممزّق بين عالمين مختلفين تماماً. إضافة إلى هذه الثنائية، يضع أبو طالب ثنائيات عدّة متصارعة في سرده الروائي: الربح والخسارة، القوّة والضعف، الذات والمجتمع، الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة، عمّان الغربية وعمّان الشرقية. إنه صراع طبقي بين عالمين لا يخلو وصفه أحياناً من الصور النمطية.
إضافة إلى كون العمل رواية صراع ملحمي شخصي، فإنها رواية رياضية أيضاً، إذ لا يوفّر أبو طالب في وصف الملاكمة وجمالياتها بدقّة وتفاصيل دقيقة، يتابع حركة الملاكم الجسدية بتفاصيلها التقنية، وتعليمات المدرّب، وحتى نفسية الملاكم الجديد والخائف من التمرين، قبل النزال وأثناءه. يحاول الكاتب نسج ملحمة تحتفي بطبيعة العنف والقتال ورمزياتهما المختلفة في رواية قصيرة غير معقّدة تحمل بعض خصائص الـ "بيست سيلر" الأدبي الأميركي، من دون أن ينتقص ذلك من قيمة هذا النوع الأدبي ولا من قيمة الرواية.
ربما يُؤخذ على العمل وجود بعض التكلّف في محاولة موضعة شخصية "سائد" في قالب تاريخ "سلالة المقاتلين" من عائلته، خصوصاً مع حجم الرواية القصير، ما يجعل هذه الموضعة غير مقنعة وأقرب إلى تصوّر سينمائي منه لمعالجة أدبية لهذا البعد.
لعلّ رواية "كلّ المعارك" تكسر ذلك النمط الرتيب في السرد الروائي العربي الذي انتشر في آخر عقدين على الأقل، وتعطي قراءة منعشة وسلسة وخالية من التكلّف في الاستعارات والأوصاف الأدبية، من دون أن يكون ذلك على حساب اللغة أو البنية الروائية.
لا سياسة هنا ولا بكائيات، ولا روائي ضائع يمشي ويدخّن هائماً في الحانات والمقاهي. والاهم، أنها تحاول إرجاع الرواية العربية إلى قصّة الفرد في صراعه مع ذاته قبل أي شيء آخر.