19 نوفمبر 2024
"كل الناس لا يأهلون العالم بالطريقة نفسها"
أخيرا، حاز الكاتب الفرنسي جان بول دوبوا (1950) أرفع الجوائز الأدبية الفرنسية، غونكور 2019، عن روايته "كل الناس لا يأهلون العالم بالطريقة نفسها"، الصادرة عن دار لوليفييه، ما كرّسه واحدا من أهمّ كتّاب فرنسا، هو الذي حصل من قبل على جائزة فيمينا عن روايته "حياة فرنسية" وقيل فيه: لو كانت رواياته مكتوبةً بالإنكليزية لكان يحتل مكانةً كمكانتي وليام بويد، وجون إيرفينغ. في رصيد دوبوا نحو عشرين عملا روائيا، وبحث ومجموعتان قصصيتان ومجموعتا مقالاتٍ حققها حين كان يعمل صحافيا في جرائد ومجلات فرنسية (لوبوتي ماتين، نوفيل أوبسرفاتور،.. إلخ).
من رواية إلى أخرى، نقع في أعماله على عناصر تتكرّر وقصص يصطادها الكاتب، على ما يبدو، من البحرة نفسها، فثمّة أحداث تقع دوما وديكورات تتردّد وشخصية رئيسة تحمل تقريبا دائما اسم بول؛ وإنْ كنا لا نحظى، نحن القراء، بوصفٍ لملامحها بقدر ما يركّز الكاتب على وصف دواخلها، فهي لا بدّ موجودة في موقع الضحية لا الجلاد، وهي حتما من مستأجري الحياة لا من مالكيها، وهي قطعا قدريّة أكثر منها ثورية مقاوِمة لا يمكن إخضاعها.
هذا هو بالضبط بول هانسن أيضا، بطل رواية "كل الناس لا يأهلون العالم بالطريقة نفسها". والده الكاهن الدنمركي يهاجر إلى كندا، لكي يقوم بعمله التبشيري بالقرب من أحد المناجم، فإذا بأموال الرعية تذهب في رهاناته على سباق الخيل. ووالدته التي لم تشكّل قط مصدر حنان له، كانت تدير صالة سينما صغيرة للفن والتجربة في مدينة تولوز، إلى حين خلافها مع أعضاء رعية زوجها حول نوعية الأفلام التي تريد عرضها، وهجرها الزوج بفعل ذلك. أجل، فالإرث العائلي في عوالم دوبوا ثقيل وقاس، ويصعب التخلّص منه، وتركة الوالدين وانحرافاتهما حاضرة في مختلف رواياته، كما هو بلاء الزمن وتلف العواطف.
تبدأ الرواية مع بول الذي يمضي عقوبة عامين في السجن، في مدينة مونتريال، بسبب جريمةٍ ارتكبها، ولم تسمح بأن ينعم بأية أسباب تخفيفية. ومع ذلك، هو يستعيد بعض لحظات الفرح وهناءة العيش التي عرفها قبلا، تتخلّل واقعه اليومي في الزنزانة التي يتقاسمها و"هورتون" الذي ينتظر الحكم بحقه لارتكابه جريمة قتل. في السجن، الوقت وفير للاستذكار واسترجاع الماضي، بدءا من العام 1950 ولغاية العام ألفين. فبعد انفصال والديه، وسفره مع والده إلى كندا، عمل بول فترة طويلة في صيانة أحد المجمعات السكنية المترفة، فكان ناطورا، وسمكريا ورجلا يقدّم الخدمات ويُصلح كل ما تعطّل، بقدر ما كان يعتني بنفوس سكّان الشقق، فيستمع إليهم ويساعد العجائز الوحيدات، وكان في ذلك الوقت متزوجا من امرأة يحبها، وتعمل في قيادة الطائرات الخاصة. غير أن حدثا جللا سيقع له مع انتخاب رئيس جديد للجنة سكّان التجمّع السكني، رجل من محبي ترامب، ومن المؤمنين بالإنتاجية لا بالعواطف، وهو ما سيقلب دنيا بول رأسا على عقب، منهيا تلك الأيام الهادئة الجميلة التي كان يعيشها، ومحوّلا إياه سجينا محكوما بالعيش داخل زنزانة.
هذا ولا يكشف لنا الكاتب ما تسبّب بسجن بول إلا في وقت متأخر من الرواية، فإذا بالأجواء تتبدّل، لتسودها كآبة وجودية تفصح عن العمق الفلسفي للعمل الأدبي، إذ يصير المجمع السكني، حيث كان بول يعمل، رديفا لعالمنا الحالي. هكذا يكفي تعيين إداريّ جديد، مراوغ ومتسلّط، لكي تختفي هناءة العيش مع الآخرين، ويتحوّل العالم من حولنا إلى عالم بارد، بيروقراطي، شبه شمولي، لا يستطيع بول وأمثاله من التوّاقين إلى العدالة والحرية، ومن رافضي الامتثال والخضوع، أن يحيوا فيه.
تتسم عوالم الروائي، جان بول دوبوا، بأنها حزينة، عنيفة، لا عدالة فيها، غير أن المضحك أو الطريف لا يغيب عنها أبدا، كما هي حال رفيقه في الأسر، القاتل هورتون، الذي يغمى عليه، عندما يحاولون قص شعره، ويخاف حتى الموت من الفئران والجراذين، ذلك أن الروائي يداوي قسوة الحياة وعنفها وظلمها بدواءٍ هو خليط ذكيّ من الطرافة والحساسية والحنان.
هذا هو بالضبط بول هانسن أيضا، بطل رواية "كل الناس لا يأهلون العالم بالطريقة نفسها". والده الكاهن الدنمركي يهاجر إلى كندا، لكي يقوم بعمله التبشيري بالقرب من أحد المناجم، فإذا بأموال الرعية تذهب في رهاناته على سباق الخيل. ووالدته التي لم تشكّل قط مصدر حنان له، كانت تدير صالة سينما صغيرة للفن والتجربة في مدينة تولوز، إلى حين خلافها مع أعضاء رعية زوجها حول نوعية الأفلام التي تريد عرضها، وهجرها الزوج بفعل ذلك. أجل، فالإرث العائلي في عوالم دوبوا ثقيل وقاس، ويصعب التخلّص منه، وتركة الوالدين وانحرافاتهما حاضرة في مختلف رواياته، كما هو بلاء الزمن وتلف العواطف.
تبدأ الرواية مع بول الذي يمضي عقوبة عامين في السجن، في مدينة مونتريال، بسبب جريمةٍ ارتكبها، ولم تسمح بأن ينعم بأية أسباب تخفيفية. ومع ذلك، هو يستعيد بعض لحظات الفرح وهناءة العيش التي عرفها قبلا، تتخلّل واقعه اليومي في الزنزانة التي يتقاسمها و"هورتون" الذي ينتظر الحكم بحقه لارتكابه جريمة قتل. في السجن، الوقت وفير للاستذكار واسترجاع الماضي، بدءا من العام 1950 ولغاية العام ألفين. فبعد انفصال والديه، وسفره مع والده إلى كندا، عمل بول فترة طويلة في صيانة أحد المجمعات السكنية المترفة، فكان ناطورا، وسمكريا ورجلا يقدّم الخدمات ويُصلح كل ما تعطّل، بقدر ما كان يعتني بنفوس سكّان الشقق، فيستمع إليهم ويساعد العجائز الوحيدات، وكان في ذلك الوقت متزوجا من امرأة يحبها، وتعمل في قيادة الطائرات الخاصة. غير أن حدثا جللا سيقع له مع انتخاب رئيس جديد للجنة سكّان التجمّع السكني، رجل من محبي ترامب، ومن المؤمنين بالإنتاجية لا بالعواطف، وهو ما سيقلب دنيا بول رأسا على عقب، منهيا تلك الأيام الهادئة الجميلة التي كان يعيشها، ومحوّلا إياه سجينا محكوما بالعيش داخل زنزانة.
هذا ولا يكشف لنا الكاتب ما تسبّب بسجن بول إلا في وقت متأخر من الرواية، فإذا بالأجواء تتبدّل، لتسودها كآبة وجودية تفصح عن العمق الفلسفي للعمل الأدبي، إذ يصير المجمع السكني، حيث كان بول يعمل، رديفا لعالمنا الحالي. هكذا يكفي تعيين إداريّ جديد، مراوغ ومتسلّط، لكي تختفي هناءة العيش مع الآخرين، ويتحوّل العالم من حولنا إلى عالم بارد، بيروقراطي، شبه شمولي، لا يستطيع بول وأمثاله من التوّاقين إلى العدالة والحرية، ومن رافضي الامتثال والخضوع، أن يحيوا فيه.
تتسم عوالم الروائي، جان بول دوبوا، بأنها حزينة، عنيفة، لا عدالة فيها، غير أن المضحك أو الطريف لا يغيب عنها أبدا، كما هي حال رفيقه في الأسر، القاتل هورتون، الذي يغمى عليه، عندما يحاولون قص شعره، ويخاف حتى الموت من الفئران والجراذين، ذلك أن الروائي يداوي قسوة الحياة وعنفها وظلمها بدواءٍ هو خليط ذكيّ من الطرافة والحساسية والحنان.