تلك الأفكار هي وليدة النظام العالمي الجديد، ومتطلبات السوق العالمية الجديدة، غير مستقرة بالمرة. تحكمها المصلحة الفردية في أغلب الأحوال. مهما كانت العواقب؛ فـ الأنا هي الباقية، ولكي تبقى الأنا، لا بد من تمكينها من السلطة الأكثر قوة في هذا الزمان، سلطة الأموال.
منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، انبثقت عنها الكثير من الأنواع الموسيقية، معظمها كان في الظل، اكتسب بعض الفرق الجماهيرية من خلال الميدان، منهم من كان مؤمناً بالمشروع الثوري والفكرة البراقة للتغيير السياسي الذي سينشأ من خلاله عالم يتسع لكل صوت، ومنهم من رأى في الميدان فرصة ثمينة للانتشار بين جمهور مختلف، أو حتى لمجرد تسجيل موقف؛ فعندما تتساقط الأقنعة، يتباهى بموقفه المتضامن مع الثورة، أو حتى يتبرأ مما حدث بحجة أنه من الحتمي مواكبة الحراك الشعبي، خاصة وأن رأس مال الموسيقى هم الجماهير.
الحديث هنا عن نوع موسيقي بالتحديد، لنقل إنه المستقل، إذ إن هذا الاسم هو الأكثر شيوعاً له، رغم تشابك المصطلح بما هو مستقل بشكل حرفي، حيث لم يكن ذلك الاستقلال سوى استقلال عن الشكل الشائع للموسيقى السائدة في الفضائيات والإذاعات، استقلال بحكم اختلافه فقط، رغم أن ذلك الاختلاف لم يكن سوى انجراف تحت وطأة الحدث والمؤثرات المادية الذي حاولت فيه تلك الفرق الموسيقية التعبير عنه، بشكل يواكب سرعته واندفاعه وحيويته.
هذا النوع المستقل، اكتسب بعضه صبغة ثورية تميزت بها موسيقاه، أو لنقل: كلمات موسيقاه، لأنه لم يواكب التطور الاجتماعي حينها بشكل موسيقي يمتلك أي نمط يمكننا من خلاله تعقبه، أو إطلاق صفة الأصالة عليه، بل على العكس، تم إعادة تدوير التراث الموسيقي، خصوصاً أعمال الشيخ إمام، صاحب المشروع الغنائي المسرحي أو التفاعلي، أو نقل الموسيقى والجمل الغربية من دون تمصيرها، واستغلال قوة تأثير كلمات، كالحرية والعدالة والحكومة والظلم، وتمريرها في قوالب موسيقية باهتة، ولكنها اكتسبت شهرة عريضة، بل وأصبحت من المعالم الموسيقية لتلك الفترة.
رغم كل ذلك الفقر الإبداعي، نشأت وتطورت الكثير من التجارب، ربما كان أهمها تجربة إسكندريلا، ومؤسسها حازم شاهين الذي التقى أمين حداد في إحدى الأمسيات الشعرية التي حاول من خلالها إحياء فكرة أبيه فؤاد حداد، من خلال المسرح الشعري والأمسيات الشعرية الغنائية، التي نشأت من خلالها إسكندريلا، حينما طلب حداد من شاهين تلحين "لازم تعيشوا المقاومة".
كان للفرق طابع أصيل، شكلٌ وثيمة تدور فيهما موسيقاهم، تتنوع بين الموسيقى التفاعلية وبين المسرح الغنائي لتأثرها بالشيخ إمام الذي كان ضيفاً دائماً في منزل والد شاهين، وكل تلك الموسيقى مناسبة للحالة العامة للمجتمع منذ اندلاع تلك الثورة، رغم وجود تلك التجربة في فترة طويلة قبل الثورة منذ 2008، وهم يحملون الأغنية المباشرة الثورية التي تناسب الهتافات الجامحة، مناسبة للغضب وللتعبير عنه. موسيقى لا تنسجم بسهولة في النظام العالمي الجديد لأنها عنيفة، تتميز كلماتها بالصراحة الكفيلة للزج بهم في السجن، وربما كان لكل ذلك تأثير كبير في اختفائهم من على الساحة الموسيقية، مقارنة بالحضور الكثيف لهم في الفضائيات التي حاولت استغلال الثورة الصاخبة تلك بشكل مادي.
ذلك الاستغلال هو سمة من سمات النظام الرأسمالي كما يقول الباحث مايكل فريشكوبف في كتابه عن الموسقيى في المنطقة العربية، حيث يؤكد بأن كل القنوات التجارية، سواء كانت شركات إنتاج أو قنوات فضائية، تسعى إلى توظيف الخطاب الوطني كوسيلة لتحقيق الثروة، مستبدلين القوة الثقافية للحدث بالقدرة المالية والترويجية له.
لم تتمكن إسكندريلا من الصمود في وجه ذلك النظام، لأن الصمود يحتم عليهم التطبيع، التطبيع مع متطلبات السوق الجديدة. ربما كانت تلك الشعارات براقة في البداية، وربما نجحوا في استغلالها بتسجيل بضع أغان في استوديوهات احترافية، وتحقيق بعض الربح الكافي لاستمرار مشروعهم الموسيقي. ربما تطبع النظام بأفكارهم حينها، لكنهم كان لزاماً عليهم التطور لأجل الاستمرارية، وهنا نتساءل عن الأولوية، أو الغاية من ذلك المشروع الموسيقي.
هل كانت إسكندريلا صيحة، وللمصادفة كانت مناسبة لكل أفكار العيش والحرية والعدالة الاجتماعية؟ ربما لأن ذلك المشروع هو موسيقي بالأساس، والموسيقى تحاول التطبع بالزمن، ولم يكن مشروع يافطة وبضع معلقات، لذا بكل تأكيد كان صيحة، ولم يكن للآن قادراً على مواكبة ما يحدث في ذلك السوق المتوحش، كانوا ربما أكثر عذوبة منه، أو ربما، كانوا محظوظين كفاية، بتخليهم عن مشروعهم ولو بشكل مؤقت، مخافة تغييرٍ يضعهم في الجهة المقابلة، لمن زرعوا الأرض مقاومة ضدهم، مثلما حدث منذ بضعة أيام في التعديلات الدستورية الأخيرة التي أقرتها السلطات المصرية، وتغنى بها هاني الدقاق مؤسس فرقة مسار إجباري، أحد المتسلقين على الثورة والمستفيدين منها، وربما كان من المؤمنين بها، لكنه انحرف بكل تأكيد عندما ساوم، لأنه في يوم ما قال في "نشيد الثورة": "زمن السكوت انتهى ومن انهاردة الخوف مالوش مكان"، والآن: "انزل شارك".
ربما، لم يقل الدقاق صراحة إن فرقته توافق على التعديلات، ولكن التعديلات في حد ذاتها نتيجتها معروفة مسبقا، والمشاركة فيها هي إقرار بمشروعيتها وقانونيتها، وهنا الخطأ والمساومة، لأن تلك التعديلات تؤسس للظلم بشكل يقيني.
ما بين هذا وذاك، كانت "كايروكي" إحدى تلك المشاريع الموسيقية التي انطلقت بشكل مدو إبان أيام الثورة. قد يجد البعض أن الأغاني تتسم، أحياناً، بالجملة الركيكة والموسيقى السهلة التي تجبرنا على الوقوف حياداً عند سماعها، لا نعرف ما الجيد فيها أو السيئ، ولكننا لا نكرهها، لأنها كانت قادرة على مواكبة كل ما يحدث حولها بذكاء وحكمة، من دون مساومة واضحة، برغم صعوبة الحفاظ على الجمهور الذي آمن بـ "صوت الحرية" التي كانت الأغنية الأكثر شهرة في الميدان، حتى كانت أكثر شهر من أغنية محمد منير، صاحب القوة الإنتاجية والشعبية الجارفة، لكن.. حتى ذلك الجمهور الذي آمن بصوت الحرية، قد تغير، أو ترك وطنه، أو زج به في السجن.
تلك الأولويات التي ذكرناها تتضح تماماً في ما تفعله كايروكي، التي تبحث دائماً عن جمهور جديد. ربما هي الفرقة الموسيقية الوحيدة التي تعاونت مع سعاد ماسي وعايدة الأيوبي وطارق الشيخ وآخرين. تنوع كبير واختلاف ملحوظ بين المدارس الموسيقية، وحتى مدارس الكلمة، ما بين الكلمة الصارمة في "احنا الشعب" بتعاونهم مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، والجمل الرقيقة مع عايدة الأيوبي والكلمة الدارجة مع طارق الشيخ.
ذلك التنوع الشديد مع الحفاظ على تلك الروح الرافضة، وكما قلنا، ذلك الرفض والغضب الوديع الهادئ المسكن، يبين لنا ما هي أولويات كايروكي والآخرين الموجودين؛ البقاء، كلهم يسعون فقط إلى البقاء. ربما كايروكي تمتلك حتى الآن أسباباً وجيهة وواجهة ناصعة للبقاء، حيث حتى لآخر ألبوماتهم يخاطبون المظلوم، يخاطبونه ليؤنسوه بالطبع لا لإثارته، وربما يستمرون هم دون الآخرين، لأن فيهم ريحة الثورة، رغم اقتناعي بأن معركتهم هي معركة إطار لا يحاولون الخروج منه لأنه مربح، فهم لن يستطيعوا مواكبة الموسيقى الرائجة، لا لضعفهم، بل لأنهم في المنطقة الآمنة.. إذن لماذا التغييير؟