"قراصنة الثلج": عربة فحم على سكك باردة

07 سبتمبر 2016
(من الفيلم)
+ الخط -

حقّق الفيلم الروائي التركي الطويل، "قراصنة الثلوج" (2015، 83 دقيقة)، حضوراً ملفتاً في مختلف التظاهرات السينمائية التي عُرض ضمنها؛ في برلين وإيران وسنغافورة وغيرها، آخرها في فرنسا خلال فعاليات "مهرجان نانسي السينمائي الدولي".

في عمله الروائي الطويل الأول هذا، يستعرض مخرج العمل، فاروق حجي حافظ أوغلو (1965)، فترة حرجة من التاريخ التركي الحديث، فترة الانقلاب العسكري الذي قام به مجموعة من الضبّاط الأتراك بقيادة كنعان إيفرين في أيلول/سبتمبر من عام 1980، داعين فيه إلى "حماية مبادئ الدولة التركية التي وضعها كمال أتاتورك".

نتيجة انقلاب كنعان، الذي كان رافعاً لراية العداء للشيوعيين بمباركة من الولايات المتّحدة الأميركية، تمكّن الجيش من تعديل الدستور بعد حملات طويلة وعنيفة من الاعتقالات والنفي والتصفيات السياسية وسحب الجنسية التركية من الآلاف، بما ضمن للعسكر بعدها السيطرة على كافة مفاصل الحياة والمجتمع، وبقي على إثره كنعان رئيساً للبلاد حتى سنة 1989.

لا يُقحم المخرج حكاية فيلمه في الحدث التاريخي، بل على العكس تماماً، ينسج خيوطها وتفاصيلها الدقيقة أمام خلفية كبيرة تمثّل حدث الانقلاب، ليلحظ المشاهد مع تطوّر الحكاية انعكاسات الخلفية المباشرة على الحياة اليومية لمدينة في شرق تركيا.

هناك بين الثلوج التي تغمر كل شيء، في تلك المدينة (كارس)، يعيش ثلاثة أطفال (سرحات، غوبوز، إيبو) لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة، سيذهبون في مغامرة طويلة في سبيل تأمين الفحم بغرض تدفئة منازل عائلاتهم.

هذه المغامرة لم تكن نتيجة إحساس عالٍ بالمسؤولية والالتزام تجاه حاجيات العائلة، بل تنبع من الحاجة إلى عيش مغامرة يفرضها التغيّر العميق في يومياتهم في المدرسة والشارع بعد الانقلاب الحاصل في أنقرة.

تدريجياً، ومع مرور الوقت، ستتم ملاحظة ومعايشة التغيّرات الحاصلة في البلاد عبر الراديو والحواجز العسكرية المنتشرة بكثافة في شوارع المدينة والشعارات على الجدران في مختلف الأماكن.

كذلك بالنسبة إلى أبطال العمل (الأطفال الثلاثة)، سيكون الأمر مماثلاً في المدرسة؛ حيث ستصدح شعارات حناجر الطلبة قسراً بمعاداة الفاشية وعملائها الخونة، وسيخلق التدقيق الصارم على ترديد الأناشيد الوطنية والزي المدرسي مفارقات كوميدية ستكسر من برودة الثلوج التي تكسو معظم مشاهد الفيلم.

سيشاهد الأطفال بأعينهم كيف تتكاثر طوابير الأهالي عند النقاط الحكومية لتوزيع الفحم، وخيبة الأهالي من عدم الحصول عليه نتيجة التبرير الدائم من موظّفي الحكومة بأن "الدولة أوّلاً ومن ثم المواطنين".

ومن تكرار خيبة الكبار، سيبدأ الأطفال الثلاثة بملاحقة العربات الحكومية بغرض سرقة الفحم، إلى أن يتمّ القبض عليهم. وقتها سيرون بأم أعينهم كمّيات الفحم الوافرة في مخفر الشرطة، وكذلك المعتقلين معصوبي الأعين ومشاهد التعذيب، ضمن كل هذا الخوف والرعب، يتمكّن المخرج من إغناء عمله بتفاصيل تتّسم بالطرافة، وبقدرتها على تعزيز روح التحدّي عند أبطاله.

على سبيل المثال، يُخرج موظّف الشرطة من جيب أحدهم رسالة كان قد كتبها لفتاة في المدرسة ويسخر منه ومن رسالته. كل ذلك سيزيدهم إصراراً على متابعة مغامرتهم التي تبدو بالنسبة إلى كل منهم قضية شخصية. يمثّل التحدّي هنا قيمة يبحث عنها الأطفال الذين يسر أحدهم بأنه يرغب بأن يصبح يوماً ما كأيقونة السينما التركية يلماز غونيه الذي تتّسم حياته وأفلامه بروح التحدّي والإصرار.

الرغبة في المغامرة والتحدّي يعبّر عنها بشكل مكثّف أحد مشاهد الفيلم: يستطيع الأطفال فك إحدى العربات الحكومية الممتلئة بالفحم، ثم يدفعونها ويصعدون فوقها وهي تسير بسرعة فائقة على سكّة القطار.

ينتبه بعدها الجنود ويلحقونهم بالعيارات النارية، فلا يستطيعون الإمساك بهم. رحلة تضعهم في مكان بعيد جداً، يقفزون بعدها من أعلى العربة واحداً تلو الآخر ويتركونها تتابع مسيرتها. وفي طريق عودتهم إلى القرية على التلال المكسوّة بالثلوج، تبدأ أجسادهم الصغيرة بالابتعاد تدريجياً، وهم يضحكون فرحين بنصرهم الشخصي.

صاغ المخرج تجربته الأولى بجهد وتأنّ وحنكة واضحة، بدايةً من كتابة السيناريو، وصولاً إلى جوانب الفيلم المختلفة، وهو أمر أثار إعجاب كثيرين، وقد نضعه هذه القدرات في ضمن قائمة مخرجين أتراك أعطوا لسينما بلادهم سمعة طيبة.

ما يميّز الفيلم، أيضاً، هو الاشتغال الواضح المخرج مع أبطاله، حيث استطاع أن يوظّفهم ويوظّف مواهبهم ليروي من خلال حكايتهم الكثير عن حدث سياسي مفصلي في التاريخ التركي، ليسير بذلك على خطى عدد من المخرجين العالميين الذين تميّزوا بالعمل مع الأطفال وبتقديمهم كأصحاب خبرة وتجربة سنوات طويلة في فن التمثيل، لا سيما في أفلام تثير الكثير من الأسئلة الملحّة عن الراهن وعلاقته بالتاريخ.

دلالات
المساهمون