"في فم الغراب": الحقيقة سمّ على شفاهنا

10 يناير 2016
"أين تذهب"، جعفر الخالدي/ فلسطين (جزء من لوحة)
+ الخط -

قليلٌ عدد قصائد "في فم الغراب" مجموعة يوسف بزي الشعريّة الأخيرة (75 صفحة، 12 قصيدة)، الصادرة عن دار رياض الريس في بيروت. ورغم صغرها العددي، إلا أنها تبدو مكثفة وممتلئة، حدّ أنها تدفعنا إلى قراءتها أكثر من مرة.

مضى أكثر من عشر سنوات على آخر ديوان ليوسف بزي "بلا مغفرة". وكانت هذه الفترة كافية كي يعيد النظر في الكتابة، الشعر بخاصة، التي ظل يواظب عليها على نحو شبه يومي مشرفاً على ملحق "نوافذ" المستقبل الذي توقف عن الصدور منذ فترة قريبة.

يعودُ يوسف بزي إلى الشعر بما يشبه الوادع الآسر. لم تخفت العلاقة بعد، إنها لم تزل دافئة وضاجة ومشرقة. قصيدته ساخنة مستلة من الواقع الحسي والملموس قادمة من إدراك "أن المعرفة في القعر"، تأتي ناقمة ومشحونة بالندم الذي لا شفاء منه في "بلد يشبه البئر".

إنها ابنة ظرفها ورهينة واقعها. لذا تبدو تسجيلية، مرافقة للحدث، صارخة ضد البطش والتعسف والقبح، ولاهثة نحو العدالة وضرورة الإيمان والثقة بالحسّ الجماعي. إنها تريد الإحاطة بكل شيء دفعة واحدة، كما لو أنها توفي ديناً وتفي بوعد سابق. ما من أبعاد ماورائية هنا، ما من ميتافيزيق، ما من رموز غريبة تحتاج تفسيراً أو أحجيات بلاغية غامضة. يكفي الواقع - اللغز، تكفي الحياة - الحيرة، يكفي الجوع - القلب.

في القسم الأول من المجموعة "تمرين حر بين السياسة والمعنى" تعلو النبرة المخنوقة وتتزاحم الأصوات وعبء "الساعات الطالعة من عاصفة". حينما يكون ضمير الشاعر مؤلفاً من صميم الواقع، تتكاثر الأصوات داخل فمه، فلا تجد فرقاً حينها بين من يغني ومن يبكي، بين من يصرخ ومن يموت.

تقال الأشياء من خلال جملة واحدة طويلة مسنونة "هنا في البلاد التي لم تعد لها طريق/ ولن يصلها العدّاؤون ولا موزعو النعمة/ هنا على بعد مصافحة واحدة/ بشر ساهرون من كل صوب/ يروون بأصواتهم المهاجرة/ تلك الساعات الطالعة من عاصفة/ من قسوة جند أعملوا سكاكينهم في بطن القرية/ وأنتِ إذ تبكين مع الفجر المتجمد/ أتقدم كرجل أخرق يعدك بقلبه/ قلبي الذي لا يكفي جوعاً واحداً".

النقاء في وجه الرياء هو ما يدفع الشاعر إلى الكتابة. الكارثة التي تحيط به ليست شخصية، فالفرديّ هنا لم يحظَ بعدُ برفاهية العزلة، ولم يحول العزلة إلى مسافة تبعده عن روح الجماعة. هذا النوع من القصائد يحمل همّاً جماعياً، ويصبو إلى أن تماثل القصيدةُ الدمَ المراق. المسعى مستحيل، لكن الشاعر يخوض الوحل، وقلبه مليء بجمال الغروب.

قوة قصيدة يوسف بزي تأتي من هنا، من همّها الأخلاقي الذي يرفد أصالتها الجمالية، لا بل يغدو هو المعيار الذي توزن به المعاني. المكان لامرئي ومجرّد. نجد قرية ما، بلداً ما. الصورة هنا جمعيّة ومختلطة. ما من صوت فردي لا يكون قادماً من صوت الجماعة التي يحيا وسطها الشاعر، وهنا لا داعي أن يسميها باسمها. تكفي صفة واحدة حتى نجد المعنى كــ"السمّ يسهر على شفاهنا".

في القسم الثاني من المجموعة، تحلّ النبرة الغنائية الرقيقة من خلال "موسيقى الحياة العامة". القصائد هنا بنات أمكنة محددة من بيروت مثل "تلة الخياط"، "الأشرفية"، "فرن الشباك"، إضافة إلى قصيدة مميزة عن "لوديف" الفرنسية، والقصيدة الأخيرة التي حملت عنوان "في أيّ مكان".

هنا تحضر العين السينمائية ليوسف بزي. المشهدية المصورة تشبه التقطيع المونتاجي كما في قصيدة "فرن الشباك": "قدّيس الموارنة يتوهّج عند المنعطف/ الراهبات كوميض أبيض من خلف الشراشف.." حتى آخر القصيدة "داخل بيت المتقاعد يتربى السرطان، ولا نأمة/ إلا الرفاصات الصدئة للسرير القديم/ وواحدة بعد أخرى، النساء المهجورات/ يدلفن إلى القداس المسائي".

المعيار الذي تختاره القصيدة لكلماتها يجد مصدره في مفردات الحياة اليومية التي يجدها يوسف بزي منجماً غنياً للكتابة.

دلالات
المساهمون