"في انتظار الياسمين" يفوح بنصف الحقائق الكريه

26 يونيو 2015
لحّام متمرّس في اجتزاء الحقائق (Getty)
+ الخط -
إن طرح أجزاء من الحقيقة بشكل مؤثر وقوي ومن خلال نصّ درامي ذكي وحبكة جيدة، ومن خلال ممثلين قديرين وإخراج مميز، يجعل الملتقي يعتقد أن هذه هي الحقيقة كاملة، فترسخ في ذهنه على الشكل الذي قدّمت به.

وهذا يعود ويعمّق وعي المشاهد لحقيقة الأحداث ضمن الشكل الذي أراد العمل تقديمه، كأن نعالج مشكلة الفساد في المجتمع السوري من خلال طرحها، ولكن على أنها مشكلة بسبب أفراد معيّنين، يسيئون أصلاً لنزاهة المؤسسات الاقتصادية من دون إظهار حقيقة أسباب الفساد، والتي هي منظومة نظام كامل يشمل كلّ القطاعات، والذي هو فساد ممنهج ومدروس لإبقاء المواطن، إما لاهثاً وراء لقمة عيشه، وإما فاسداً سيستميت بالدفاع عن الفساد والمفسدين، والشيء نفسه بالنسبة لمعالجة القمع الأمني في البلد، وفساد أجهزة الأمن، الذي كان يصوّر أيضاً على أنه مجرد فساد أشخاص، وليس منظومة سياسية عامّة يحكم الدكتاتور بلاده بها.

ولعل هناك الكثير من الأعمال التي ما زالت بذهننا وعالجت بأنصاف الحقائق، مثل "غزلان في غابة الذئاب"، و"الولادة من الخاصرة" الذي برغم قوّة وجرأة نصف الحقيقة الذي قدّمت فيه، هربت من الدخول لدائرة النظام الضيقة، وتحاشى طرح مسؤوليتها المباشرة عن كل ما حصل في البلد، بالإضافة إلى تكريس مسؤولية الجميع المتساوية عن كل هذا، مساوياً بين الضحية والجلاد، بين السلطة القمعية الفاسدة والمواطن الضعيف المسحوق، ولعلّ كلّ من "مرايا" ومسلسلات غوار، بطولة دريد لحام، تصبّ في الاتجاه نفسه، ولنا أن نذكر هنا أن دريد لحام قام بتغيير نهاية مسلسل "عودة غوار"، واختلف مع الماغوط كي لا تقال الحقيقة كاملة، إضافة إلى أعمال مثل "خربة"، عالجت الثورة بشكل سطحي وتهريجي، وهربت باتجاه المشاكل الاجتماعية الموروثة ضمن ثقافة طرح النتائج دون الدخول الحقيقي بأسبابها.

إقرأ أيضاً: الدراما السورية: حمل الكم الكاذب ورهان النوع المحكوم بالأمل

يعرض اليوم على القناة السورية مسلسل "في انتظار الياسمين"، وهو نموذج فاضح لنهج تقديم ربع الحقيقة، وليس نصفها فقط! فهو يصوّر أحد الأمكنة السورية بعد أربع سنوات من الثورة ويصوّر النازحين ، لكنه لا يتطرّق أبدا لأسباب هذا النزوح وهذا القهر، ولا يتطرق لعنف النظام ولقصفه المدن بالبراميل والطائرات، كما أنه يصوّر المخرّبين، أو الشبيحة، على أنهم شباب استغلوا الفوضى وأخذوا يخربون ويسرقون باسم رجال الأمن، وكأن رجال الأمن شرفاء أبرياء من هذه الممارسات، وخاصة بعد أربع سنوات من الثورة، ولعل من اللافت مثلاً وجود شخصية كردية في العمل وقدرتها على الغناء باللغة الكردية فيه، لنفهم أي خبث في سياسة هذه الأعمال، إذ كان مجرد لفظ كردي ممنوع بالدراما التلفزيونية السورية، وكانت مجرد المشاركة بعيد النيروز جرماً قد تدفع عمرك لأجله، فكيف إذاً الغناء باللغة الكردية التي لم يُسمح مرّة أن تدرس أو تُسجل، وأية مغازلة للأكراد، والذين هم شريحة سورية وطنية، أمعن النظام على مدى خمسين عاماً في قهرهم وظلمهم وتشريدهم!

إن أعمالاً درامية أو أدبية تقول الحقيقة كاملة كانت تُصادر فورا، وقد تصادر حياة صاحبها، نذكر مثلاً مسرحية "سلالم" للمخرج غسان جباعي، التي عُرضت على مسرح الحمرا لمدّة ستة أيام فقط، ثم أوقف عرضها، لأنها كانت تصور فعلا حقيقة ما يتعرض له سجين الرأي في سورية.

ثقافة أنصاف الحقائق هي ثقافة ماكرة ومرعبة، ولعلنا نحتاج للتخلص منها بكلّ جوانب تفكيرنا، واستبدالها بثقافة قول الحقيقة كاملة مهما كانت، والتي أيضاً لم تكن يوماً مجرّد لونين اثنين، وأن نقبل بها حتى إذا تناولت بعض عيوب الجهة المظلومة التي ندافع عنها.

عمل مسلسل "في انتظار الياسمين" لن يبقي على أي ياسمين حقيقي نحن في انتظاره.

إقرأ أيضاً: باب واحد لمسلسلَين سوريين: كسل الكاميرا أم أوزار الحرب؟
المساهمون