يُمكن قراءة كتاب المستعرب الألماني، توماس باور (1961)، "فرض الدلالة الواحدة على العالم"، الصادر مؤخّراً عن منشورات "ريكلام" في ألمانيا، كتتمّة لعمله السابق "ثقافة الالتباس: تاريخ آخر للإسلام". لكنها تتمّة لم يُراجِع فيها بعضاً من تعميماته وأحكامه الجوهرانية المتعلّقة بالشرق والحداثة.
يُقدّم الكتاب الجديد مديحاً للتسامح مع الالتباس، وفي الآن نفسه، تأريخاً للتراجع الكبير الذي يعرفه التعدّد، سواء على مستوى الطبيعة أو على مستوى الثقافة؛ إذ يفتتح باور عمله بتقديم إحصائيات عن التراجع الكبير الذي عرفه عدد الطيور والنباتات، مُعرّجاً على تمظهرات هذا التراجع على مستوى الإنسان؛ فالجهات المهتمّة باللغات المهدّدة بالانقراض، تتنبّأ باختفاء ثلث اللغات المستعمَلة اليوم خلال العقود القادمة.
أمّا في ما يتعلق بالتعدّد الثقافي، فيرى باور أن القارّة الأوروبية لم تكُن يوماً موطناً للتعدّد الثقافي أو الديني، ويسجّل أنه لم توجد البتّة قارّة موحّدة ثقافياً ودينياً كما هو الحال بالنسبة إلى أوروبا، في حين حَكم التعدُّد الثقافي أرجاء واسعة من آسيا وأفريقيا.
يستشهد باور، خلال حديثه عن أوروبا، بالكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ الذي سجّل منذ العام 1925 نوعاً من "فرض الرتابة" على العالم، وما يعنيه ذلك من توحيد لأشكال الحياة وعولمة لأعراف محدّدة، وهو ما من شأنه أن يقبِر كلّ فردية؛ بحيث سيصبح للبشر - أينما كانوا - الاهتمامات نفسها والهوايات ذاتها، أو ما يسمّيه تسفايغ "روحَ الحشد"، والتي هي نتاج نزعة توحيدية، نعرفها من كلّ الأصوليات، ونعرفها لا ريب أكثر من أصولية السوق، ومن تمظهراتها، وهو ما وصفه تسفايغ بـ"ضمور الأعصاب لصالح العضلات، وانقراض الفردي لصالح النمط".
يرى باور أن هناك استعداداً داخلياً لدى الحداثة لتدمير التنوّع، ضارباً مثلاً بالنقاشات المحتدمة حول التعدّد الثقافي اليوم في السياق الغربي. ولا بأس أن نُشير هنا، مرّة أخرى، إلى أنه يستعمل مفاهيم مثل الحداثة وما قبلها بشكل جوهراني، إذ لن نجانب الصواب إذا تحدّثنا عن حرب على التنوّع حتى في المجتمعات السابقة على الحداثة، وما سيطرة نمط حكم واحد وتيار ديني واحد هو "الأورثوذكسية السنيّة" في البلاد التي تنتشر فيها الديانة الإسلامية إلّا تعبيراً عن ذلك، فقد تحقّقت هذه السيطرة على حساب التنوّع ووجهات النظر الأخرى إلى الدين والعالم.
ولعلّه ليس من المبالغة اعتبار أن باور يستعمل مفهومه المركزي، الذي استقاه من علم النفس، بشكل غير نقدي، لأن تبنّي أطروحته سيمثّل - في لغة هابرماس منتقداً غادامر - "إعادة اعتبار للتراث"، أي هيمنةً له على الواقع، والأدهى في سياقنا أن الأمر يتعلّق بتراث أو تاريخ متخيَّل.
لا يُمكن ربط الالتباس، الذي اعتبره السوسيولوجي، زيغمونت باومان، القوّة الوحيدة القادرة على مواجهة النزعات الاستئصالية للحداثة، بحنين إلى مرحلة سابقة على الحداثة، بل لا يمكن تحصينه إلّا عبر حشد لقوى النقد، لأن النقد وحده من يحول دون تكلّس الخطاب، ومن يحافظ على الفصل الضروري بين العقل والسلطة أو يفضح انحرافاتهما.
بالتأكيد، فإن عالمنا المعاصر يعاني - كما يلاحظ باور - من تراجع التسامح مع الالتباس. لكن أحد أسباب هذا التراجع قد يكون تراجعَ قيمة النقد واستبدالها بقيمة الاستهلاك. لم يبالغ من ربط بين الخوف من الالتباس والرأسمالية، لكن الأمر يتعلّق، لا ريب، برأسمالية "نهاية التاريخ"، والتي تؤسّس لنمط محدَّد يتوجّب على الجميع محاكاته والتماهي معه، إذا ما طلَب تحقيق النجاح الوظيفي والمجتمعي.
تظل أهمّ نقطة يعالجها الكتاب، والتي تتمتع أيضاً بأهمية كبيرةٍ بالنسبة إلى السياق العربي، تلك المتعلّقة بواقع الدين في الحداثة. وفي هذه الجزئية، يَعتبر باور الكنيسة الكاثوليكية نموذجاً للتسامح مع الالتباس في السياق الأوروبي، ولا ريب أنه يكتب ذلك وعينُه على الانتقادات التي وجّهها السوسيولوجي دونالد ليفين للكنيسة البروتستانتية في الولايات المتّحدة الأميركية في كتابه "الهروب من الالتباس".
يرى باور أن الكاثوليكية الأوروبية يميّزها نوع من التوتّر بين التقاليد والحداثة، ويحكمها مبدأ "لا يتوجّب تقديم جواب لكلّ سؤال"، وذلك بالرغم من الانتقادات التي وجّهها المؤرّخ الكنسي هوبرت فولف للمجمع الفاتيكاني الأوّل والثاني، ولما أسماه "إخضاع الطقوس للنص"، وما رافق ذلك من "إكراه ديداكتيكي - مؤدلج".
وفي السياق نفسه، سيؤكّد توماس باور التشابه بين "طغيان الفضيلة" لدى المصلِح البروتستانتي كالفن، وتصوّر المجتمع في الأصولية الإسلامية، ويرى أن كل أصولية تقوم على عداء كبير للتسامح مع الالتباس.
يربط باور الأصولية أوّلاً بالدفاع عن حقيقة الدلالة الواحدة، والتي ترفض القراءة المنظورية للعالم. أمّا الخاصية الثانية لكل أصولية برأيه، فتتمثّل في رفضها التاريخ، مؤكّداً أن مشروع كالفن لم يكن البتّة بناء مجتمع جديد، إنما استعادة نماذج قديمة وطهرانية، وهذا يعني في رأيه بأن الأصوليين يرفضون التطوّر التاريخي لدينهم، بكل ما راكمه خلال هذا التطوّر من تقاليد تأويلية متنوّعة.
يقود ذلك في نظر باور إلى الخاصية الثالثة، والتي يصطلح على تسميتها بالطهرانية، فكل ما هو طهراني لا يمكنه أن يكون إلّا واضحاً، لأن الالتباس نتاج للاختلاط والتعدّد، وهي الطهرانية نفسها التي قادت كالفن ليس فقط إلى تحديد ماهية الدين الحقيقي، ولكن أيضاً إلى تنظيف مدينته جنيف من كلّ رأي مختلف.