"عيد ميلاد" بالأسود والأبيض: بهاء الصمت

11 مارس 2019
"عيد ميلاد" لهلال بايداروف (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يصعب تصنيف "عيد ميلاد" (أذربيجان، 2018، 63 دقيقة) لهلال بايداروف كفيلم وثائقي بحت. لا متخيّل فيه ولا إضافات سينمائية، والوثائقيّ حاضرٌ فقط في توثيق لحظات متتالية في يوم كامل من حياة سيّدة (مريم ناغِيَافا)، تُقيم وحيدة في منزلها. توثيق يتابع التفاصيل الصغيرة التي تمارسها السيّدة، من دون كلام وموسيقى ومؤثّرات صوتية، فالأهمّ كامنٌ في التقاط نبض تلك التفاصيل، وعلاقة السيّدة بها. لذا، يخرج "عيد ميلاد" من الأصناف السينمائية المعتادة، مرتكزًا على لغة بصرية هادئة في مرافقة السيّدة في مسارها الحياتي في يومٍ واحد، وفي انشغالاتها المعروفة، كالطبخ وتنظيف المنزل وترتيبه، والعمل في الحديقة، وغسل الألبسة، وشرب القهوة، والقيلولة، وغيرها من أمور تمارسها نساء كثيرات. 

لكن هلال بايداروف غير مكتفٍ بما تُصوّره الكاميرا (بالإضافة إلى كونه المخرج وكاتب السيناريو، هو مدير التصوير والمولِّف أيضًا). فالبناء السرديّ يذهب إلى أعماق ذات وروح، تواجه صاحبتهما قدرها في أن تكون وحيدة داخل جدران منزلها الفارغ. كأن "عيد ميلاد" يتحرّر من وطأة الظاهر، ليغوص في مشاعر وهواجس وتأمّلات وشرود، تتعلّق بامرأة تكشف، بأداء رائع لناغِيَافا، أهوال العزلة والفقدان والتخلّي، التي تعاني السيّدة أهوالها.

يقول التعريف الرسمي بالفيلم ـ المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية، في الدورة الثالثة (2 ـ 8 مارس/ آذار 2019) لـ"مهرجان شرم الشيخ للسينما الآسيوية" ـ إنّ السيدةَ أرملةٌ، وإنّ أولادها متخلّون عنها، تاركين إياها في وحدتها. هذا مُترجم بلقطات معبِّرة عن المُصاب الأليم الذي تعانيه الأرملة، فهي عالقةٌ في سجن يغتال روحها ويؤلِم جسدها، وإنْ يظهر الاغتيال والألم مواربة، فالأصل السرديّ يهدف إلى جعل المسافة القصيرة بين عدسة الكاميرا والممثلة مريم ناغِيَافا (وقصرها تمرينٌ على حركة الكاميرا وتحرّك الممثلة في الفضاء الضيّق للمنزل)، حيّزًا لقول المُخبّأ في انفعال أو تمنٍّ أو رغبةٍ في بوحٍ معطَّل. فالطعام الكثير الذي تطبخه، يعكس شوقًا إلى مجيء الأولاد الغائبين عنها، وغيابهم لن يكون أخفّ وطأة من غياب الزوج؛ والهاتف الذي تستخدمه لألعابٍ مختلفة، يشير إلى انتظارها اتصالاً يُتيح لها قولاً أو بوحًا، أو اكتفاءً بسماع صوتٍ ما، لكن الاتصال غائبٌ. جلوسها على الأريكة، قبل التمدّد عليها لقيلولةٍ، يوضح المساحة الشاسعة لقلقها وخوفها وارتباكاتها وأشواقها، وهي تواجه وحيدةً شيخوخة وموتًا، والأقسى منهما انتظار الثاني في بدايات الأولى.

الأسود والأبيض مقصودان في تحقيق "عيد ميلاد"، فهما لن يكونا إضافة جمالية وفنية ودرامية فقط، بل تعبيرًا عن القسوة الداخلية والتمزّق الروحي والألم الذاتي، وهذه متجذّرة في الأرملة، فتكشفها مريم ناغِيَافا بهدوء قاسٍ يحمل نوعًا من خرابٍ عميق، وبملامح تقول بالصمت التام ما تبوح به الصُوَر السينمائية المتتالية.
المساهمون