في أولى تجاربها الطويلة "على حلّة عيني" (102د، 2015)، قرّرت المخرجة التونسية، ليلى بوزيد (1984)، أن تنجز فيلماً روائياً يتّخذ من أجواء ما قبل الثورة التونسية، محرّكاً أساسياً لمجرياته.
الفيلم الذي عُرض مؤخّراً ضمن "مهرجان دبي السينمائي"، الذي اختُتمت فعاليات دورته الثانية عشرة أمس، سبق أن تلقّى ترحيباً كبيراً في مختلف أماكن عرضه، ما جعل الكثيرين يبشّرون بموهبة بوزيد، التي أعاد الشريط تقديمها بعيداً عن كونها ابنة المخرج المعروف نوري بوزيد، حتى أن أحد النقّاد وصف العمل، على موقع سينمائي أميركي، بأنه "أفضل الأفلام الروائية العربية عن الربيع العربي".
بعد عدد من الأفلام القصيرة، تقدّم بوزيد التي درست الآداب في "جامعة السوربون" ثم الإخراج في "معهد لافيميس" في باريس، فيلماً يرصد بضعة أشهر مقتطّعة من أسرة بطلته فرح (بيّة مظفر)، فتاة في الثامنة عشرة من العمر، تشكّل فرقة مع عدد من أصدقائها، تؤدّي أغاني روك تنتقد السلطة والوضع العام في تونس.
تحلم فرح بأن تتابع دراسة الموسيقى، لكن حلمها يُواجَه بالعقلية التقليدية للأسرة في ما يتعلّق بالخيارات الدراسية للأبناء؛ إذ تريد منها أن تدرس الطب. هي أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، على المستويين الاقتصادي والثقافي، الأب محمود (لسعد جموسي) منفصلٌ عن الأم حياة (المغنّية غالية بن علي)، يعمل مهندساً في مدينة قفصة التي أُبعد إليها بسبب عدم انتمائه إلى الحزب الحاكم.
تحاول الأم أن تُبعد فرح عن الغناء، خصوصاً بعد أن عرفت، من خلال عشيقها القديم منصف، الذي يعمل مع الأمن، بأن السلطات تنوي اعتقال ابنتها بسبب توجّهاتها المناهضة للنظام، إلا أن الفتاة تتحدّى أمّها وتستمر في الغناء إلى أن يجري اعتقالها، ثم التحرّش بها في المعتقل.
تخرج بعدها بوساطة منصف، ثم يقرّر الأب أن ينتسب إلى الحزب الحاكم، وتقف البنت إلى جانب أمّها لتغنّيا "على حلّة عيني" (موسيقى خيام اللامي)، في الوقت الذي بدأت فيه الثورة بالاشتعال.
تتنقل عدسة المخرجة بين حياتين متوازيتين للبطلة؛ في الأولى نجدها تغنّي مع فرقتها، وتتطوّر خلافاتها مع حبيبها برهان (منتصر عياري)، وكذلك في اللحظة التي يجري فيها اكتشاف حقيقة أحد أعضاء الفرقة، الذي يكون عميلاً للأمن التونسي. وهذه الحياة تشكّل المركز بالنسبة إليها.
أما الثانية، فتقتصر على مشاكلها الشخصية مع عائلتها الممثَّلة في الأم التي لا تتوقّف تدخلّاتها في حياتها الشخصية. يمكن القول، أيضاً، إن فرح تمثّل صلة الوصل بين عالمين أو بين جيلين. لاحقاً، نكتشف، من خلال السياق، بأن الأم كانت في شبابها أيضاً تملك طموحاً وتمرّداً لا يجعلانها مختلفة كثيرة عن شخصية ابنتها، ويمكن من هذه الزاوية فهم إسناد الدور إلى مغنّية.
تفتح إحداثيات العائلة على قراءة أوسع حول انتفاء دور الطبقة الوسطى في تونس في ظل نظام بن علي، كما في باقي البلدان العربية التي مسّتها موجة الثورات والانتفاضات. لذلك، قدّمتها بوزيد مرتبطة، بطريقة أو بأخرى، مع النظام الحاكم.
على هذا النحو يمكن قراءة قرار الأب بالانتماء إلى الحزب، أي الرضوخ له، كاعتراف صريح بالهزيمة، فربطُه زمنياً بحادثة التحرّش بابنته في المعتقل يوضّح بشكل أكبر طبيعة الأدوات التي يستخدمها النظام في تطويع المواطنين بمختلف مشاربهم الاجتماعية.
لا شكّ في أن الجرأة التي تحلّت بها المخرجة التونسية في العمل، سواء على مستوى الشكل أو المعالجة الدرامية، مهمّة جداً وتُحسب لها في تجربتها الأولى، ولكنها ليست كافية ولا تسدّ القصور الواضح في رسم الشخصيات التي بدت فارغة من الصراعات الداخلية التي لا توجد حياة من دونها، داخل الشاشة الكبيرة أو خارجها.
اقرأ أيضاً: "بابور كازانوفا": ملاعب وسجون وأوروبا