هناك سجال قائم حاليًا حول "التراكم الكمّي" في الفيلموغرافيا العربية، في الأعوام القليلة الماضية. سجال عقيم، أفرز آراء متناقضة، يُمجِّد بعضها "التراكم"، لأنه يشكّل أرضية فنية وإبداعية، ومدخلاً أساسيًا ناجعًا لتأسيس مشروع سينمائي، قادر على بلورة تصوّرات ورؤى فنية ومواقف سياسية واجتماعية، ذات ملامح عربية، إيمانًا من أصحاب هذا التوجّه بضرورة تحقيق هذا التراكم، الذي ربما يُفرز ـ مع مرور الوقت ـ تجارب سينمائية نوعية.
لكن المشكلة متعلّقة بشحّ الموارد المالية، وبُخل المؤسّسات الثقافية، الوصية على الإنتاج السينمائي، وبالسوق السينمائية العربية، التي لا تقوى على دعم المنتوج السينمائي الوطني المحلي، ما يجعل هذا الرأي يتلاشى، ولا يُعمّر طويلاً، إذْ تُسقط مؤسّسات وجهات دعم شعار "الكمّ أولاً"، وتتبنّي شعارًا جديدًا يرتكز على "النوع"، لاعتقادها الساذج أنّ هذه السياسة تُحرِّر السينما العربية من عجزها التقني، وفقرها الفكري، وانحسارها الإبداعي.
في "عرفان"ـ الذي عرض في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، في الدورة الـ8 (11 ـ 15 يونيو/ حزيران 2019) لـ"المهرجان المغاربي للفيلم بوجدة" (جائزة أفضل ممثلة لمليكة بلباي عن دروها فيه) ـ يكسر الجزائري سليم حمدي هذه البديهة المميتة، العاملة على سياسة "التراكم الكمّي" عبر فيلم ممتع، هو الأول في مساره السينمائي. فيه، يُسلِّط الضوء على وضعية المرأة، ودورها في صناعة التاريخ الجزائري. لذا، جاء العنوان بصيغة اعترافٍ للمرأة الجزائرية، ولمساهمتها النضالية في الجبال والأرياف والمدن، لتحرير شعبها وكرامتها من سلطة المستعمِر، بمقارنةٍ بين ماضيها وحاضرها، بسرد قصّة شهيدة على لسان مُجاهدة، وبتوقيع شابّة، عبر تقنية تصوير تستند إلى الأسود والأبيض، وإلى الألوان أيضًا، لمحاكاة الماضي والحاضر بطريقة سلسة، تساعد على استيعاب الفيلم، وفقًا لـ"أيديولوجية" خفيّة، تتغنّى بالثورة والتحرير والاستعمار والتاريخ.
يتميّز "عرفان" بقدرته على تكسير المتعوَّد عليه في الفيلموغرافيا العربية، المشتغلة على مادة تاريخية صرفة. فالفيلم يتنصّل من هذه الرؤية الكلاسيكية، التي تستعرض المَشاهد بطريقة تاريخية متسلسلة رتيبة، ويعمل على تذويب التاريخيّ في السينمائيّ، فاتحًا له آفاقًا جديدة للتفكير والحلم. أي أنّ التاريخ في الفيلم ليس بطوليًا وملحميًا، بل إطارًا يحتضن التاريخ، مع ترك مسافة بيّنة بين الواقع والحلم، أو بين التاريخيّ والفني.
لتعزيز هذه الرؤية الفنية، عمل سليم حمدي ببراعة على الـ"فلاش باك"، كتقنية تنبّه على أنّ الفيلمَ مُتخيّلٌ (يمتزج مع الوثائقي أحيانًا) لا تاريخيّ، وأنّه يرتكز على تأريخ حياة المرأة المُقاوِمة إبّان مرحلة الاستعمار في الجزائر.
وهذا من دون نسيان أنّ درجة حضور الصورة، كمعطى بصري جمالي، تُثير شيئًا من الفرح تارةً، ومن النفور من تجارب سينمائية عربية تارة أخرى. هذه الأخيرة ربما تكون تجارب جيدة، لكنّ عدم اعتنائها بجماليات الصورة في العمل (روائيًا أو وثائقيًا)، يُفقده بريقه الفني والجمالي، ثم قدرته على الإدهاش. ذلك أنّ قيمة تلك الصورة تُمكِّن الفيلم من العثور على تناغم مُدهش للأشياء والعناصر. فالدهشة هنا، المنبثقة من جماليات الصورة في مَشَاهد مختلفة، تعمل ضمنيًا على إعادة إنتاج واقع جديد مُتخيّل، يُراعي المسافة اللازمة بين الواقع والمتخيّل، أي إنتاج جماليات جديدة مبتكرة، لها علاقة مباشرة بالفيلم، لبثّ مزيد من السحر والدهشة في السرد، ولخلق نوع من المتعة لتعزيز شعور المُشاهد بشيء من الحلم والتناغم في كيانه.
كما أنّ مسألة العشق ملحّة على المتلقّي، لتحقيق متعته المنشودة، لأنّ للسينما إمكانيات ثرية غير متوفّرة في الفنون البصرية الأخرى، فهي تواصل وجداني، ولقاء فكري، وتفاعل جمالي مع الصورة.
يُظهر "عرفان" أنّ على سؤال التجديد في السينما العربية أنْ يهتمّ بالصورة أولاً، لأنّ العمل السينمائي يتأسّس على الصورة، التي ينبغي تطويرها والحفر في أنماطها الجمالية، لخلق جمالياتها الخاصة. فالصورة (فنية أو فوتوغرافية أو سينمائية) تبني خطابها وتصوّرها ومعالمها ورؤيتها من تجذّرها في ثقافة ما، بحمولاتها وأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية، أي أنّها تظلّ لصيقة بالمخيال الجمعي، الذي خرجت منه، ونشأت وتبلورت فيه.