"عدو مناوب" لدولة الاحتلال

13 سبتمبر 2016
(وضعت دولة الاحتلال حركة المقاطعة في خانة "العدوّ المناوب")
+ الخط -

لا يتماشى إعلان دولة الاحتلال أخيرًا، على لسان رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، أن حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (BDS)، مُنيت بهزيمة، مطلقًا مع سيل الإجراءات والميزانيات والقوانين التي اتخذتها وتتخذها لاستمرار المواجهة.

وكان آخر ما نُشر عن هذه الإجراءات، إقامة طاقم قانوني خاص في "وزارة الشؤون الاستراتيجية" مُكلّـف بإيجاد طرق بكل الوسائل القضائية لإيذاء كل من يدعم هذه الحركة من الإسرائيليين والنشطاء الأجانب.

كما أن هذا الإعلان لا يتماشى مع كشف النقاب عن أن "خلية" مواجهة حملة المقاطعة التي تعمل في "وزارة الشؤون الاستراتيجية" قررت أن يكون مقرها في مجمّع "المؤسسة الأمنية الإسرائيلية" في تل أبيب، كي يكون في وسعها زيادة التنسيق مع أجهزة الأمن الأخرى. وهذا ما ذكره الوزير الذي يتولى هذه الحقيبة (يسرائيل كاتس)، مؤكدًا أن التقديرات السائدة في دولة الاحتلال أن حركة المقاطعة "خطر استراتيجي".

في حزيران/ يونيو الفائت، نشرت وكالة "بلومبرغ" الأميركية للأنباء تقريرًا أشارت فيه إلى أن الاستثمارات الأجنبية في ممتلكات تابعة لدولة الاحتلال قفزت بنحو ثلاثة أضعاف منذ عام 2005 الذي تم فيه تأسيس حركة المقاطعة، وبلغت عام 2015 رقمًا قياسيًا مع حجم استثمارات يزيد عن 285 مليار دولار، ولا سيما في الشركات والمصارف.

وبيّن التقرير أنه في الوقت الذي تركزت فيه جهود حركة المقاطعة وفرض العقوبات على كبح العلاقات الاقتصادية والتجارية مع مصالح إسرائيلية، خصوصًا تلك الموجودة في ما وراء "الخط الأخضر"، فإن التأثير الاقتصادي لذلك ما يزال ضئيلًا.

إذا كانت الحال على هذا المنوال، فما الذي يثير قلق دولة الاحتلال؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال إيراد بعض وجهات النظر داخل دولة الاحتلال.

يرى أوري أفنيري، وهو ناشط سلام وعضو كنيست سابق وكاتب صحافي، أن إسرائيل التي كانت تحظى بإعجاب العالم اختفت منذ وقت طويل، وأن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات BDS تلاقي نجاحًا مُبهرًا.

صحيح أنها لا تضر كثيرًا بالاقتصاد الإسرائيلي، لكنها تخلق رأيًا عامًا، ينطلق من الجامعات إلى خارجها، والمنظمات اليهودية تستغيث. وبرأيه تم الوصول الآن إلى اللحظة التي تتأثر فيها حتى المنظمات اليهودية نفسها، فالأنباء اليومية حول ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة وحتى داخل دولة الاحتلال تؤذي اليهود، خصوصًا الشباب اليهودي، وقد أخذ كثيرون منهم يديرون ظهورهم تجاه إسرائيل، بل أصبح بعضهم ينشط في مقاومتها.

وبحسب المديرة العامة لـ"وزارة الشؤون الاستراتيجية" في دولة الاحتلال، سيما فاكنيـن، فإسرائيل اليوم هي دولة منبوذة في العالم.

وتحدّد فاكنيـن "جوهر الانتصار" على حركة المقاطعة بأنه "تغيير الرواية السائدة حاليًا في أنحاء العالم المتعدّدة حيال إسرائيل والتي أمست تضعها على قدم المساواة مع نظام الأبارتهايد" البائد في جنوب أفريقيا.

ونتيجة لهذه الرواية والصورة المرتسمة لدولة الاحتلال عالميًا، يؤكد تقرير وكالة "بلومبرغ" الذي أشير إليه من قبل، وبالرغم من إقراره بضعف تأثير حركة المقاطعة على الاقتصاد الإسرائيلي عامة، أن كثيرين من أصحاب الاستثمارات الأجنبية في هذه الدولة يرفضون الحديث علانية عن ذلك.

ووفقًا للتقرير، فإنه من مجموع مندوبي ثلاثين شركة لديها أسهم في شركات أو مصارف إسرائيلية توجهت إليهم الوكالة، وافق اثنان فقط على التحدث بهذا الشأن، من دون كشف هويتيهما على الملأ.

في إجمال سريع لوجهات النظر هذه، يمكن القول إن حركة المقاطعة حققت نجاحات ملفتة في نشاطها في ما يتعلّق بعنصرين مهميّن في المعارك السياسية والدبلوماسية، هما الوعي والردع.

في المقابل، يُلاحظ أن دولة الاحتلال وضعت حركة المقاطعة في خانة "العدوّ المناوب" الذي يسعى لما تسميه "نزع الشرعية عنها".

ومنذ عدة سنوات، أضحت عبارة "خطر نزع شرعية إسرائيل" التعبير المتداول على نحو واسع في دولة الاحتلال من أجل توصيف حملة النقد الدولية للسياسة الإسرائيلية والممارسات الصهيونية.

ولا بُدّ من الإشارة، في هذا الشأن، مثلًا، إلى أن الهجوم الإسرائيلي المنفلت على تقرير "لجنة غولدستون الأممية" حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها على غزة عام 2008 - 2009، تقنّع، أكثر من أي شيء آخر، بذريعة مؤداها أن استنتاجاته المتعلقة بتلك الجرائم تؤجج الحملة الفلسطينية والعربية والدولية التي تهدف إلى سحب البساط من تحت "شرعية إسرائيل"، وبالتالي فإن تبني الرواية الإسرائيلية على علاتها بشأن تلك الحرب ووقائعها، من جهة، والتصدي لهذه الاستنتاجات، من جهة أخرى، يصبان في صالح الدفاع عن هذه "الشرعية".

ومن ناحية الوقائع الجافّـة، منذ ذلك الوقت طُرحت اتجاهات كثيرة للتفكير والعمل في طريق مواجهة هذا "التحدي"، في طليعتها تحديث النظرية الأمنية الإسرائيلية، إلى ناحية تسفر عن اعتبار "خطر نزع الشرعية" يعادل "التهديد العسكري"، مع ما يستدعيه ذلك من "وسائل مواجهة جديدة" تندرج في مجال العمل الدبلوماسي وتتطلب جعل وزارة الخارجية الإسرائيلية لا تقل قوة وكفاءة عن وزارة الدفاع.

كما أنه تحت هذا القناع نفسه تفاقمت داخل دولة الاحتلال، حملة مكارثية شرسة على جمعيات محلية تعنى بحقوق الإنسان وبالحقوق الديمقراطية عامة.

واستهدفت المبالغة المفرطة في تصوير "خطر نزع الشرعية" عن إسرائيل، تحجيم حملة النقد الدولية التي تتعرّض لها سياسة دولة الاحتلال، إلى جانب التملص من المستحقات القانونية الدولية لتقرير "لجنة غولدستون".

لكن حتى مع نجاحها في ذلك إلى حدّ كبير لم يتسبّب الأمر بانتفاء القيمة الإضافية لهذا التقرير، والتي لا تعتبر منحصرة فقط في تبعاته القانونية، مع كل أهميتها. فقد كانت قيمته الحقيقية كامنة، أساسًا، في تأديتـه إلى اهتزاز صورة إسرائيل في العالم كافة، وخصوصًا في العالم الغربي الذي تتباهى بالانتماء إليه، وبكلمات أشدّ دقة تأديته إلى تدهور هذه الصورة نحو حضيض غير مسبوق.

من ناحية ثانية، لا يمكن التقليل من قيمة أخرى لهذا التقرير هي إعادة الاعتبار، بشكل ما، إلى مكانة الأسرة الدولية، وإلى تأثيرها على "بؤر التوتر" في العالم.

كما أن هذه المقاربة نفسها الآن تحاول أن تنأى بقضية المقاطعة خارج السياسة ومحدداتها وضروراتها، وأن تحيلها بصورة مداورة إلى خانة "نزع الشرعية"، ما يعني إعادة إنتاج الأسباب الواقفة وراء مآل الأوضاع الحالية، لكون "الشرعية" التي تدافع عنها هي تلك المرهونة بممارسات صهيونية متّسمة بالقوة والعنف.

بالتزامن مع كتابة هذا التعليق، قدم محام يهودي من إسرائيل ناشط من أجل حقوق الإنسان ويدعم حركة المقاطعة، طلبًا للحصول على لجوء سياسي في كندا، وأكد أنه ملاحق سياسيًا في بلده بسبب مواقفه، وأن أمثاله ليس لهم مكان في دولة الاحتلال، ولذا قرر المغادرة قبل فوات الأوان.

وأضاف أنه لا يؤمن بدولة الاحتلال، وأن الفكرة الصهيونية كانت خطأ منذ بدايتها، ولذا فإن اليهود ما يزالون يدفعون ثمنها غاليًا، مشيرًا إلى أن الخطيئة الأولى للصهيونية هي نكبة 1948 التي مهّدت لاحتلال 1967 وتدهور الأوضاع، وإلى أنه يدعم حركة المقاطعة لأن إسرائيل لا تفهم لغة أخرى غيرها.

وهذا يدلّ على ما أنجزته ويمكن أن تنجزه حركة المقاطعة على مستوى الوعي، حتى وإن لم يفضِ مثل هذا الوعي إلى نشوء قوة ردع تتسم بالعملانية، بسبب عوامل ليست مرتبطة بدولة الاحتلال وحدها.


(كاتب وباحث فلسطيني/ عكا)