يُثير سؤال الغربة والاغتراب عن الأهل والوطن والأحباب، بصرف النظر عن أسبابه، شجونًا وأحزانًا وآلامًا. رغم ذلك، فإنّ "قصص العابرين" (2018) للعراقي قُتيبة الجنابي يمتلك جماليات كثيرة ولافتة للانتباه.
هناك مغتربون عرب كثيرون، طوعًا أو إكراهًا. من يختار ماذا؟ سؤالٌ يحاول الجنابي الإجابة عنه في فيلمه هذا، الذي استغرق تصويره 30 عامًا، حتى بات جاهزًا على نحوٍ يُرضيه في يوليو/ تموز 2018. بالإضافة إليه، هناك تساؤلات مختلفة يطرحها المخرج: "هل أنا من اختار الغُربة ودروبها الفارغة والمُوحشة، أم هي التي اختارتني لتلفني بأحضان صقيع ثلجها الوافر؟". مع انتهاء الفيلم، ربما يعثر المُشاهد على إجابة، أو ربما لا يجد ضالته. لكن المؤكّد أن تجربة مُشاهدة الفيلم ستؤثر فيه تأثيرًا لن يزول بسهولة، بالمستويات كلّها، النفسية والعاطفية والبصرية والفنية.
"لم يكن لي من خيار غير الرحيل. لم يكن أمامي غير الفرار من غرف الإعدام وساحات المعركة، ذات الموت المجاني"، يقول الراوي/ المخرج، مضيفًا: "غبار الحروب والقهر القمعي أخذاني بعيدًا عن مدينتي، بغداد"، فـ"تحوّلنا إلى أرقام بسبب الحروب والقهر والخوف الدائم". ثم يسأل: "إلى أين؟". الإجابة: "كلّ الطرق تؤدّي إلى المنفى. كلّ الطرق بعيدة عن بغداد". هذه أسباب تدفع الصبي قتيبة إلى ترك بلده وأهله، أبرزها: "صوت المذياع والبيانات العسكرية والخطب، التي لا يزال رنينها يتردّد في أذنيّ".
قسّم قتيبة الجنابي زمن "قصص العابرين" (60 دقيقة) إلى 3 أقسام. صحيحٌ أنه كتب عناوين للقصص هكذا: "الحجرة، حياة ساكنة، الشتاء، مغادرة بغداد، القطار، الجندي، القاتم". لكن، بصرف النظر عنها، للفيلم بنية قائمة على ترك المُراهق وطنه ومدينته بغداد، وبعض الخلفيات. ثم رحلة التسكّع والتشرّد في دروب المنافي. وأخيرًا، حنين العودة إلى الوطن بحثًا عن ظلال الأب المفقود.
منذ اللقطات الأولى، يظهر الاشتغال على الصورة بالغ التميّز، ويمكن رصده سريعًا. فالمخرج اعتمد أكثر من طريقة ونهج لعرض إمكانياته الإبداعية وخيالاته البصرية. مثلاً: لقطات لمنزل يبدو أنه منزل الأهل في العراق. صورة للأم والأب معًا، ثم صورة الأب. أثاث قديم... إلخ. ثم يعلو صوت رنين الهاتف، من دون مجيب. مفاتيح صدئة أو بالية. المنزل مهجور. لذا، لم يكن مُستبعدًا أن يصاحب تجوال الكاميرا داخل المنزل صوت صفير الريح، كأنها تهبّ على صحراء. خطب عصماء مبثوثة في شريط الصوت، وموضوعة بدقة، تُبيّن من دون تفسير كيف كانت الأمور في العراق في ثمانينيات القرن الـ20 وما بعدها. معركة القادسية مثلاً. لقطات أرشيفية قصيرة وسريعة من الحرب. أصوات إطلاق النار، بينما تتجوّل سيارة حديثة في بغداد المعاصرة.
هذه وغيرها نماذج من اشتغال الجنابي على الصورة والصوت، ومزجهما معًا، والخروج برؤية متكاملة شديدة التناغم. هذه ليست صُورًا موضوعة هنا وهناك، أو موسيقى عابرة بُثّت كيفما كان. لا شيء من هذا في "قصص العابرين".
يستعيد الراوي/ المخرج لحظة الوداع، ومدى صعوبته عليه، وفراق الأهل والأقارب والأصدقاء. ثم المرور أمام صالات عرض سينمائي، اعتاد ارتيادها، لوداعها. يظهر هذا كلّه في صُوَر فوتوغرافية بالأبيض والأسود، تبدو مُلتقطة خلسة أثناء توجّهه إلى المطار، خائفًا من الاعتقال أو القتل. صُوَر تتقاطع مع أخرى وتُكملها، التقطها الجنابي بكاميرته العتيقة من نافذة الطائرة لحظة الإقلاع وأثناء التحليق فوق بلده، وهو غير عارف متى العودة. كذلك، هناك لحظات الهبوط للمرة الأولى في بلاد ومدن غريبة، لم يكن يتصوّر قط أن يأتي إليها.
القسم الثاني يُلخِّصُ تجربة كلّ مُغترب في بلد أجنبي لا يعرف أهله ولغته. يقول: "مثل الشجرة بلا جذور، أو مثل القطارات التي لا تأتي، ومثل المحطات التي بلا قطارات. هكذا عشت حياتي، مواطنًا في ذكريات وطن ضائع". تكثيف بالغ لصُوَر تختزل عشرات السنين، تظهر في نافذة فندق يسكنه غريب أو عابر، تتساقط عليها قطرات مطر، وأوراق أشجار. ثم يبزغ فجر آخر، ويسقط الثلج، وتمرّ الفصول في ثوانٍ عبر تلك النافذة. غريبٌ يُطرد من شقته بسبب عدم دفع الإيجار، أو تهجره امرأته لكثرة مشاكله. غريبٌ أو عابر يُرفض طلب إقامته، وعليه مغادرة البلد، وذاكرته وذكرياته فيه. يضربه عنصريون و"بلطجية".
هذه المفردات كلّها، يُكثّفها الجنابي في لقطات سريعة ومقتضبة ومشحونة دراميًا، وهي لقطات جميلة وحزينة، تبدو لوحات تشكيلية، ثرية ومتنوّعة، لنوافذ وأبواب مُغلقة أو شبه مُغلقة، تطلّ على مجهول أو لا شيء. أماكن خربة ومساكن عتيقة خاوية وفناءات يسكنها الفراغ. هياكل سيارات وقطارات صدئة وجسور وطرقات ومدن وقرى. قضبان قطارات تأتي من لامكان وتذهب إلى غير وجهة. مُحاولات التواصل المُستحيل مع الأهل عبر الهواتف العتيقة والخطوط العرجاء. التسكّع في الشوارع بلا عمل أو وجهة أو أمل أو مستقبل. البحث عمن يشاركه ترحاله وتنقّله، وعن قصص عابرين مثله.
في النهاية، هناك فقط أرصفة محطات وقطارات، وهناك ترحال جديد. في حالة الجنابي، أو بطله الغريب العابر، هذه محاولة للعثور على وطن بديل. الفرار من رغبة العودة إلى الوطن، التي تلحّ عليه أينما كان. والأهم، الهروب قدر المستطاع من صوت المذياع الذي يرافقه طوال الفيلم، مع البيانات العسكرية والنشرات الحماسية والانتصارات الوهمية، والخطابات باسم الوطن والعرب والعروبة.
بينما يكتب قتيبة الجنابي هذا كلّه بكاميرته، ينتقل بصريًا، بمنتهى السلاسة، بين صُوَر عديدة، تحمل طابع السبعينيات الفائتة وألوانها المائلة إلى الحُمرة، وتقفز إلى الحاضر بصُوَر ساطعة ومصقولة. فجأة، يعود إلى الأبيض والأسود. هذه سلسلة مُتعمَّدة من التجاورات البصرية والصوتية، التي يرغب عبرها في توليد معانٍ كثيرة يتركها للمُشاهد كي يُحلّل ماهيتها.
الحكاية الصامتة في هذا الجزء (دقائق قليلة) تروي قصص عابرين ينتظرون ليل نهار قطارًا لا يأتي، أو لا يتوقف. حكاية هي قطعة فنية قائمة بحدّ ذاتها في بناء الفيلم، وممتعة بصريًا ودراميًا، خصوصًا مع الموسيقى المُميّزة التي ترافقها. هذه لقطات تستدعي أفلام المخرج المجري بيلا تار، والروائي المجري لازلو كراسناهوركاي.
لا مبالغة في هذا. بيلا تار اقتبس أفلامًا عديدة له من أعمال كراسناهوركاي. ربما تأثر قتيبة الجنابي بتار أو لازلو. لكن إقامته في المجر ودراسته فيها، واتقانه اللغة المجرية، وعمله في صناعة السينما المجرية، ولقاءاته أساتذة كبارا في هذا المجال، أمور لها أثر فيه، وإن لاإراديًا. ربما لهذا، اشتغل الجنابي بصبر مديد، ليخرج فيلمه بالصورة التي يريد. علمًا أن صورة وتركيبات وصوتيات كهذه نادرًا ما تمتلكها أفلام وثائقية عربية.
القسم الثالث محمَّل بثقل كبير على القلب والروح، لانشغاله بالبلد والأهل والحروب والقتل، عبر قصة جندي يرتدي "اللون الكاكي"، ويحمل حجرًا. القصة وثقلها غير منفصلين البتّة عن قصّة الوالد المُغيَّب للجنابي نفسه، العائد للبحث عن ظلّه، وللتخلّص من عبء القصة وثقلها أيضًا. هو لا يعرف شيئًا عن والده منذ أن أُخِذ عنوة أمام عينيه. بسبب ذلك، تنصحه والدته بالسفر، هو البالغ حينها 17 عامًا، كي لا تفقده هو الآخر. يبحث العابر أو الغريب عن روح والده في الشوارع والزوايا والمدن الفارغة، لعله يجده في مكان ما. "هذا كان حلمي، وكابوسي"، كما يصف الجنابي الوضع. ولعلّه، بتحقيقه "قصص العابرين"، تخلّص من كابوسه، وحقّق حلمه.
أما الموسيقى التصويرية فرائعة في حزنها وشجنها. بالغة الرقة والعذوبة، وممتعة للغاية. هناك مسحة تدلّ على أنها من شرق أوروبا، مع أنغام هندية حزينة، وترية الطابع. وبسلاسةٍ، يُدخل الجنابي صوت البيانو أو التشيلو، فيسود المقطوعة ويُكسبها أبعادًا وأعماقًا جديدة. للإمعان في الإبداع، يُدخل على شريط الصوت بعض الخشخشة الصوتية، التي تلازم عادة تسجيلات صوتية قديمة وغير نقية، فيجعل الموسيقى أداة مكملة لصُور الشاشة الآتية من ماض ولّى.
آثار الماضي هذا ظاهرة عبر شريط سينمائي آثر الجنابي معالجته بـ"فلاتر" تُبرز قِدَمه. ولإبراز دور الزمن، عالج الصورة بخدوش وخربشات، تظهر وتختفي في أنحاء الشاشة. كما لعب على الصورة كي يبدو الفيلم كأنّه مُصوَّر بـ"خام" قديم ورديء، فيه حبيبات أثّرت على الصورة. ولعله آثر ترك مقاطع قديمة من دون معالجة لتحقيق أثر مرغوب لذاته. في النهاية، هناك "كولاج" بصري سينمائي وفوتوغرافي، عرف كيفية صنعه ببراعة لإحداث أثرٍ، من دون طغيان طرف على الآخر.
في النهاية، أحدث قتيبة الجنابي أثرًا فنيًا متنوّعًا، بصنعه لوحة بصرية منسوجة من مفردات فنية عديدة، ولحظات شعورية صادقة وعذبة قوامها الشجن والحنين والفراق والألم.