"طبائع الاستبداد" بالفرنسية: إحياء الدعوة لتجديد التفكير الديني

09 مايو 2016
(باريس: دار سندباد / أكت سود، 2016)
+ الخط -

صدرت في باريس بداية العام الحالي الترجمة الفرنسية لكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" للنهضوي السوري عبد الرحمن الكواكبي، عن دار سندباد / أكت سود، ترجمة هالة قضماني، وتقديم سلام الكواكبي، وذلك بعد أكثر من قرن من صدور النسخة العربية في القاهرة سنة 1902. وكان الفرنسيون العاملون في العلوم الإنسانية قد تعرفوا إلى أفكاره من خلال اشتغالهم على النصوص العربية من كتبه ومقالاته، حيث يُتقن اللغة العربية أهمهم والأكثر جدية من بينهم. كما استطاع الآخرون أن يقرؤوا الأساسي من أفكاره وطروحاته من خلال الدراسات التي كُتبت باللغات الفرنسية والإنجليزية.

بالمقابل، افتقدت المكتبة الفرنسية لترجمة كاملة لأحد أعماله ليُعتبر مرجعياً في دراسات تتكاثر وتتطور في هذه المرحلة عن الفكر الإصلاحي. كما أن هذه الترجمة الفرنسية ستُتيح لعموم القراء، وليس فقط الباحثين، التعرّف إلى الصحوة الفكرية التي مرت سريعاً في مشرقنا الملوّث اليوم بطغيان الظلامية أو الاستبداد أو كليهما معاً.

إن اختيار هذا النص، إضافة إلى مقتطفات منتخبة من كتاب الكواكبي الثاني "أم القرى"، تم بناءً على حمولته التحليلية لمفهوم الاستبداد بأبعاده كافة كما لحمولته التوضيحية والتحريضية في سبل مقارعته. وبالنظر إلى واقع الاستبداد المتجدد في أيامنا هذه، رغم أن ما كتبه الكواكبي كان "صرخة في واد" منذ أكثر من قرن، فيبدو من الضروري تقديم النص بالفرنسية لتوضيح عمق وغنى الفكر الذي أنتجه، كما لإظهار التأثر بأفكار عصر التنوير والكتابات المتنوعة التي واجهت الاستبداد والظلم.

كانت صرخة الكواكبي تُنبّه إلى أن الاستبداد ممتدٌ تاريخياً وقادرٌ على اجتراح أحدث الطرائق، وأمكر الأساليب في سبيل الاستمرار والاستدامة. وقد حلّل فكرياً ديناميكيات الاستبداد، وأوضح آثاره التدميرية في كافة ميادين الحياة. وقد تمنى أن ينساه الناس بعد سنوات عدة، لأن صيرورة التطور البشري ستُغير أساليبها السياسية والفكرية نحو الأفضل، وسيتم بالتالي تجاوز الاستبداد بمختلف أشكاله إلى نوع متطور من الحياة العامة القائمة على ما أسماه بالديمقراطية الدستورية، التي تحكم مختلف أوجه الحياة وتدفع بالمجتمعات إلى تطوير علمها ومعارفها ومكتسباتها، وتشكل الأساس للخروج من دائرة الانحطاط. ولم يرد في خلده أن بعد كل هذه السنوات، سيكون الاستبداد قد تطور وأعيد إنتاجه على نحو أكثر صلابة، وحيث سيتم استلهام آخر ابتكارات الحداثة لزيادة الرقابة على المجتمعات والفتك بها إن هي عبرت عن الرغبة بالتحرر.

عبد الرحمن الكواكبي ما زال يحظى بالاهتمام من خلال حساسيته لموضوع الديمقراطية ومواجهته مفهوم السلطة المطلقة. وهو يشير دائماً إلى دور المثقفين (الخاصة) في نشر الوعي و قيادة المجتمع عبر تأسيس نخبة واعية تؤثر في المجتمع (العامة). وبذلك، فهو يشدد على أن دور "العلماء العاملين" يتمثّل في القضاء "على جهالة الأمة"، بوصفها واحدة من قوتين هائلتين، إلى جانب "الجنود المنظمة"، في خدمة الحكومة الاستبدادية، وذلك من خلال نشر العلوم التي "توسع العقول وتعرّف الإنسان ما هو الإنسان وما هي حقوقه"، والتي تشمل علوم الحياة مثل "الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية".

إن صدور ترجمة فرنسية لنصٍ نهضويٍ أثّر في محيطه العربي، يأتي في فترة دقيقة يتعرّض فيها تكوين الوعي الجمعي الفرنسي لإرهاصات إثر الهجمات الإرهابية وما رافقها من اختلاط في المفاهيم واستغلال في التوظيف. إنه نص يُشير بشكلٍ جليٍ لوجود فكر نهضوي وتنويري قبل نيفٍ ومائة عام يكاد يُستعاد بتفاصيله اليوم. كما أن التنويه به يمكن أن يدخل في جدلية إحياء فكرة تجديد الخطاب الديني وإصلاح الفكر الديني، كما في تفكيك الكثير من المحرمّات الوهمية.

إضافة إلى ما تقدم، فإن وجود الكواكبي متاحاً بالفرنسية سيسمح للكثير من المسلمين غير الناطقين بالعربية، وخصوصاً منهم الواقعين تحت تأثير دعاةٍ ظلاميين، بقراءة خطابٍ تنويريٍ نهضويٍ يُخرجهم، ولو قليلاً، من رمال الجهالة المتحركة والكتابات التحريضية المنتشرة بكثرة وبكل اللغات.

قراءة النص بالفرنسية تكاد تكون بجمالية كتابته العربية وسلاستها. وقد بدأت الحوارات تُثار في المحافل العلمية والثقافية حوله. فإلى جانب عديدٍ من المحاضرات والندوات، خصصت المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية ندوة عن هذا الصدور، كما في معرض باريس للكتاب. وسيحتفل معهد العالم العربي في باريس بالكتاب من خلال ندوة فكرية تتعرّض لأهم محاوره.

المساهمون