لم يبتعد المُنظّمون كثيراً عن العنوان الذي اختاروه لمعرض مارك شاغال (1887-1985) المرتقب منذ مدة طويلة، أي أن يكون أقرب إلى مهرجان يضمّ بين ثناياه، عدا اللوحات الأصلية، كل ما تسمح به التكنولوجيا الحديثة من وسائل بصرية وسمعية.
إنه نوع من الاستعراض المسرحي والموسيقي والفني، ضمن ما يُعرف بالمعارض "ذات الوسائط المتعدّدة"، فهنا لا نتحدث عن إسقاط بسيط للصور، ولكن عن إخراج يستفيد من التطوّرات التكنولوجية قام بتنفيذه بدقّة ومعرفة عميقة كل من جان فرنكو يانّوتسي، وريناتو غاتّو وماسّيميليانو سيكّاردي.
"شاغال - حلم ليلة صيف"، المعرض الذي افتتح باحتفاء كبير من قبل النقاد والجمهور، ويستمر في متحف "بيرمانينتي" بـمدينة ميلانو الإيطالية لغاية 28 كانون الثاني/ يناير 2018، هو شكل جديد من تلقي الفن، ولعلّه ذاك الذي يلائمه أكثر لأنه يعيد إليه الوظيفة الأساسية، أي تلك التي تروي وتدهش وتحرك الأحاسيس والمشاعر.
تقول يولا سيينا، رئيسة مجموعة أرثيميسيا التي تدعم المشروع لـ"العربي الجديد": "نحن نعتقد كثيراً بهذا المشروع، لأن الأمر لا يتعلق بتلك المنتجات المعلّبة مسبقاً التي تسمّم عالم معارض الفن، هذا مشروع ذو قيمة عالية جداً، وهو نتيجة عمل إبداعي ضخم، وخلاصة ناجحة بين أفضل ما يمكن أن يقدّمه الحرفيون الإيطاليون والتكنولوجيا. النتيجة كما ترون مدهشة، شبيهة بحلم".
وقد تم تقسيم المعرض إلى ثلاث مراحل، تستعرض المراحل الحياتية والتطوّر الفني لمارك شاغال عبر اثني عشر تسلسلاً صغيراً، وكل تسلسل يوضّح بطريقة ما مسار الفنان القادم من روسيا البيضاء الذي حصل فيما بعد على الجنسية الفرنسية: فيتيبسك (قرية صغيرة مسقط رأس شاغال)، الحياة، الشعر، الكولّاج، الحرب، الزجاجيات، أوبرا غارنييه، دفني وكلوي، الفسيفسائيات، السيرك، رسوم الحكايات والكتاب المقدّس.
الأعمال المائية التي يبلغ عددها 42 لوحة، هي حصيلة رحلة استغرقت سنتين إلى اليونان، حيث اختار الفنان أن يضع رسوماً مصوّرة للرواية اليونانية القديمة "العشق الرعوي لدفني وكلوي"، التي كتبها "لونغو أو لوغّوس Λόγγος"، حسب تخمين المؤرخين، في القرن الثالث الميلادي.
يقدّم المعرض لزوّاره فرصة الاطلاع على تفاصيل كيفية عمل الفنان، بالإضافة إلى بعض الأعمال من مقتنيات متحف مارك شاغال الوطني في نيس. وبهذه الطريقة الجديدة للاستمتاع بالعمل الفني، سيكون بمقدور الزائر أن يلتقط الكثافة الهائلة والغنى التعبيري لأعمال شاغال التخيّلية.
إلى جانب الأعمال الزيتية تظهر أيضاً أعمال الكولّاج، الزجاجيات، الفسيفسائيات وكل الموهبة الفنية لشاغال، في مجموعة تغزو فضاء المعرض بألوان جذّابة ونابضة بالحياة، مُشرّبة بجو غنائي وشاعري مؤثر. التأثيرات تحيط بالزائر من كل الجهات؛ 360 درجة، بينما صوت الراوي والموسيقى يتتابعان، كجزء لا يتجزّأ من نفس العمل، في إحساس ومعرفة جديدة للفن. لعل ذاك الذي حلم به كثير من الفنانين، كغاية أخيرة، ليس الدهشة والمقدرة على إذهال الآخرين، إنّما إشراك خيال وحواس الزائر من خلال السرد، حيث يتحوّل إلى ممثل وبطل للحلم الذي يعيشه.
والتجوال في المعرض، ما عدا الأجواء الساحرة، يتيح للزائر أيضاً التمتّع بمشاهدة أجمل أعمال شاغال، مثل "العشاق بالأخضر" (1916-1917)، "العشاق بالرمادي 1916-1917"، "النزهة 1917-1918"، "الرقص 1950"، مصحوبة بموسيقى وأصوات الرواة في انسجام تام مع ثيمات هذه اللوحات لكي تنقل الزائر إلى العالم الحلمي لشاغال.
العالم الشاعري لشاغال يتغذّى من الخيال الطفولي ومن التجليات القوية للحكايات الروسية، من بساطة الأشكال التي يربطها بالرسم الروسي في بدايات القرن العشرين الذي كان يغلب عليه طابع العفوية البدائية، والذي تمكن مقاربته مع تجارب ناتاليا سيرغييفنا غونتشاروفا وميخائيل لاريانوف.
ومع مرور الزمن، نجد أن اللون في لوحات شاغال قد تجاوز حواشي الأشكال ليشمل كلّ اللوحة، والأشكال تتوسّع في بقع أو حزم من الألوان، مشابهة للكيفية التي عمل بها فنانو تيّار البقعية (tachisme)، وهو أحد اتجاهات الفن التجريدي الذي انطلق في فرنسا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ويتميز بوضع مساحات لونية كبيرة تأخذ شكل البقع على سطح اللوحة.
وأسلوب شاغال، كما هو معروف، يبدأ من وجهة نظر طفولية ويعيد تشكيل ذكرياته وأحاسيسه عبر العين المنذهلة للطفل. كل مشاهدة منه تخلق دهشة كنّا نسيناها. عالم بلا جاذبية أرضية، يسمح لمخلوقات رائعة أن تتحرّر وتنطلق في السماء مثل الملائكة.
والعين الطفولية هنا هي انتقائية بالمقارنة مع الأعجوبة التي تؤطّر عالمه، وكعادة شاغال، نراه يقتطع من ضجيج ذلك العالم شخصيات بسيطة، تفاصيل لا تعني شيئاً، لكي يمنحها بتشكيله المنفرد موقعاً بارزاً ومطلقاً.
وفيما لو تأمّلنا أعماله جيداً، نرى أنها لا تبتعد كثيراً في بعض مراحلها عن الحوشية التخيّلية (المدرسة الوحشية الفرنسية Fauvism)، وهي حركة تميّزت باستخدام ألوان غريبة صارخة وتحريف الأشكال بتغيير حجومها ونسبها وألوانها التقليدية.
ورغم أن أعمال شاغال توضع دائماً في بُعدٍ حلمي يستوحيه من ماضيه، وكما يبدو واضحاً أيضاً، من تأملاته لأعمال الرسام الرمزي الفرنسي غوستاف مورو (1826-1898)، إلا أن النقّاد يرون أنها لا تملك أي شيء من المظهر العلمي في البحث السوريالي للحلم.
إنه أكثر من معرض بسيط للوحات شاغال، بل هو استعراض بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، مع إخراج وموسيقى تصويرية أعدّها خصيصاً للمعرض لوكا لونغوباردي، قادرة على تحفيز الزوار عاطفياً، وترويج شكل جديد من المعرفة حيث تراد منه إعادة الوظيفة الأساسية للفن، عن طريق الموسيقى، السرد والامتاع.
جانب مظلم مع الصهيونية
صعب أن نتخيل صاحب العوالم الحلمية الطفولية في خدمة الحركة الصهيونية، ولا نعرف كيف فهم هو هذا التورط. زار شاغال فلسطين في ثلاثينيات القرن العشرين مُكلفاً برسم سلسلة لوحات مستوحاة من التوارة. بعدها استمرت "العلاقة" وساهم بفنه مع مؤسسات صهيونية عديدة وحتى مع "حكومة إسرائيل" (الصورة مع غولدا مائير)، وصولاً لعامه التسعين عندما كرّمته بلدية الاحتلال في القدس بوسام شرير يسمى "عزيز القدس".