"سيرج دانيه في مكان آخر": الناقد السينمائي وما بعده

19 ديسمبر 2017
("عزيزي سيرج دانيه"، فوتوغرافيا لـ مانويل دي أوليفيرا)
+ الخط -

"كل طبقة تمتلك أسلوب صراعها الأيديولوجي الخاص، طريقتها المعينة في جعل أفكارها ومفهومها عن العالم فعّالة، ويمكن تملّكها واستخدامها. البروباغندا البرجوازية لا تنتج على منوال البروباغندا الثورية، تماماً كما هو في الإعلام والنقد والفن"، عبر هذا المقطع من مقال بعنوان "وظيفة النقد.. الشعب واستيهاماته" يمكننا الدخول إلى عالم الناقد والمُنظّر السينمائي الفرنسي سيرج دانيه (1944 - 1992).

هذا المقطع المنشور ضمن كتاب "سيرج دانيه.. في مكان آخر" الصادر حديثاً في القاهرة بالتعاون بين مركز "سيماتك"، و"المركز الثقافي الفرنسي"، وموقع "ترسو"، يعكس رؤية دانيه للسينما ليس بوصفها عملاً فنياً مجرداً، ولكن باعتبارها سياقاً تتقاطع فيه رؤى سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية وأيديولوجية ومعرفية متنوعة. إذ أن دانيه يركّز في كتابته على الكيفية التي يتم التعبير بها عن ذلك سينمائياً، أو من خلال أي وسيط آخر يعتمد على الصورة.

يضم الكتاب مجموعة مقالات لسيرج دانيه، تعكس تطوّر أفكاره في مراحل مختلفة من حياته، بالإضافة إلى مجموعة من المقالات والأبحاث التي أنتجت خلال سيمنار عقد في القاهرة خلال شهر نيسان/ أبريل الماضي، وقام بتيسيره الناقد التونسي الطاهر الشيخاوي، وتضمن مناقشات وحوارات مع نقّاد وصنّاع أفلام حول كتابات وأفكار دانيه، وعرض عدد من الأفلام القديمة والمعاصرة التي تشتبك مع أفكاره ورؤيته للصورة والسينما وتأثيرهما على المتلقي.

يقول الشيخاوي في مقدمته للكتاب: "يمكن بدون مبالغة القول إن هناك في تاريخ النقد السينمائي فاصل تاريخي بين مرحلة ما قبل دانيه وما بعد دانيه. فالكتابة عن السينما كانت إما صحافية، لصيقة بالخبر، وإما أكاديمية مرتبطة بفرع من فروع العلوم الإنسانية كالفلسفة أو علم الاجتماع أو التاريخ. صحيح أن فرنسا عرفت نوعاً ثالثاً أقرب إلى الإخراج السينمائي فتح الطريق للموجة الجديدة وتخصصت "كراسات السينما" فيه، ولكنها كانت طريقاً للولوج إلى ميدان الإخراج وصناعة الأفلام، أما دانيه فكان ينطلق من الأفلام سلباً وايجاباً، يسائلها ويتفاعل معها ويعيد قراءتها من مقال إلى مقال، لتطوير رؤاه كناقد متابع وهاو للسينما، مقترحًا قراءات جديدة في الصورة السينمائية".

ويضيف: "رفع دانيه النقد السينمائي إلى منزلة عالية ارتقت به إلى جنس في حد ذاته، لا كفرع من تاريخ السينما أو سوسيولجيته، أو كجزء من فلسفة الفنون، وإنما كجنس مستقل بذاته يمكن أن يرتقي إلى مرتبة الإبداع تماماً كالسينما".

بينما يشير الناقد علي العدوي منسق السيمنار إلى أن التدفق الرهيب للصور الذي نعيشه، من صور حرب وعنف وصور دعايات إلى صور الحياة اليومية المتنوعة، يشكّل عاملاً محفّزاً لإعادة التفكير، ومحاولة فهم أفكار "دانيه" حول سياسات وجماليات وأخلاقيات صنع وإنتاج وتلقي تلك الصور بشكل نقدي يناسب لحظتنا الحالية.

موضحاً أن أكثر ما يميّز الأفكار التي طرحها دانيه "فكرة الفرق بين ما هو صورة سينمائية فنية، وبين ما هو بصري. البصري نمطي متوقّع معروف سلفاً، وربما "كلشيهاتي" رسمي وقومي. صور الدعاية والبروباغاندا والإعلانات مثلاً، تكون على عكس الصورة السينمائية التي ترينا المغاير أساساً، ترينا الآخر، ترينا ما يربكنا، ما لا نتوقعه، ما لا نعرفه سلفاً. وهي إذ ترينا ذلك، تقربنا من الأفراد وليس الجموع أو المجاميع. تعادل هذه الفكرة استنطاق التاريخ عبر الروايات غير الرسمية، والمرويات الشفوية، واليوميات الشخصية، والسجلات المدنية، وصوت و/ أو صورة المسكوت عنه".

ويكمل: "قادت النقاشات حول نصوص دانيه إلى النظر في الفرق بين الصورة والبصري في سياقنا الحالي، وإلى السؤال حول كيفية صناعة، وكتابة، صورة سينمائية مغايرة الآن في ظل التدفق الرهيب للصور؟ خاصّة وأننا لم نستطع أن ننسى كيف ساعد تدفق صور ثورة 25 يناير السلطة ووسائل الإعلام على تدجين وتعليب مثل هذا الحدث الاستثنائي، والهائل والهام، ليس فقط كثورة، وإنما كثورة وسلعة في نفس الوقت".

شهدت كتابات دانيه وحياته عدة مراحل ساهمت بقوة في تطوير أفكاره ورؤيته للعالم وللصورة، من أبرزها ثورة الشباب الأوروبي عام 1968 وتبعاتها، التي عايشها وهو في الرابعة والعشرين من عمره. ثم سفره إلى العديد من الدول منها بلدان عربية، واكتشافه لثقافات وسينما مغايرة، مروراً بكتابته في "كرّاسات السينما"، وتفاعله مع النقاد وصنّاع الأفلام من روّاد الموجة الجديدة. وصولاً لانتقاله إلى عالم الصحافة اليومية، من خلال جريدة "ليبيراسيون"، وانفتاحه على الصورة التلفزيونية وتحليله لما تقدمه من محتوى بصري، سواء عبر عروض الأفلام أو البرامج والمسلسلات والنشرات الإخبارية.

ساهمت أيضاً الأيديولوجيا الماركسية والأفكار الماوية في تشكل وتطوّر كتاباته، وقد سعى دانيه لتجاوز فخ الدوغمائية وفرض أفكاره الأيديولوجية المسبقة على كتابته، بل كان منفتحاً على الرؤى المختلفة وداعياً للتساؤل والتفكير خارج الأطر التقليدية، وكانت معظم كتاباته تبدو في كثير من الأحيان كمونولوج داخلي، وفي أحيان أخرى كديولوغ مع القارىء يحمل قدراً كبيراً من تدافع الأفكار.

"كان دانيه معاصراً لفترة نهاية الأيديولوجيات، لكنه لم يسقط كالعديد من معاصريه في فخ "الانتهاء من التفكير"، لقد تخلّى عن المنظومات لكنه لم يتخلّ أبداً عن التفكير، فمواكبته لما يجري في العالم من صراعات وحروب خاصة في "الشرق الأوسط"، لم تكن بالنسبة إليه مجرّد سياقات أو تبعات للحرب الباردة، بل مساحات لصراعات جديدة، كمخابر لرهانات مستقبلية تقتضي إيجاد معاني جديدة ومفاهيم تتماشى مع تلك الأوضاع" يقول الشيخاوي.

أكثر ما يميز هذه الاستعادة لأفكار وأطروحات دانيه، أنها - برغم ما تضمنته من احتفاء - ركّزت على خلق حالة تفاعلية تناولت أفكار دانيه بالنقد والتحليل، سعياً لتطويرها والبناء عليها من خلال حوارات ونقاشات وعروض أفلام. هذه الحالة التفاعلية تعكسها المقالات المترجمة المختارة بعناية بين دفتي الكتاب، والتي صاحبتها هوامش وتعليقات وشروحات مهمة من المترجمتين؛ مي التلمساني ونرمين نزار. فرغم الوضوح الذي قد يبدو في كتابات دانيه، إلا أنها تتضمن قدراً من التعقيد والرمزية التي تكتسب معناها ودلالاتها من خلال معرفة السياق الذي أنتجت فيه.

تقول مي التلمساني: "يتميز دانيه في الكتابات المعنيّة بالسينما والتلفزيون التي قمت بترجمتها بأسلوب أدبي خاص، لا يحيد عن مساره الفكري ولا عن أسلوبه الإبداعي والنقدي المفتوح على التأويل، مما يترك للمترجم وللقارىء العربي في العموم مجالاً خصباً للتفسير وإعادة القراءة، بل وإعادة إنتاج المعنى في بعض الأحيان. فالمعنى النهائي يتشكل من تلك الفراغات التي يتركها الناقد، عمداً في اعتقادي، لكي يملأها القارئ وفق إدراكه ووفق خبراته المعرفية ومكانه في العالم بل ومكانه من الأيديولوجيات المطروحة ونقدها".

دلالات
المساهمون