13 نوفمبر 2024
"سوناطراك" والديمقراطية في الجزائر.. استعصاء التغيير
ثمّة صانعون للقرار في الجزائر عندما تسمع كلامهم تصل إلى يقين أنهم يتحدثون بصدق. ولكن ليس بقول/ لقول الحقيقة، بل لتمرير رسائل، إلى الصديق والعدو، بأن الوضع على ما هو عليه باق، وبأن الشخص دائما، والفريق الذي يحكم معه، باقون ومتحكمون، ووحدهم يملكون مفاتيح أسرار نهايته، أو بالأحرى مفاتيح استمراره إلى ما يشاء الله.
هذا ما تفهمه، وأنت تستمع إلى المدير العام لشركة النفط الجزائرية (سوناطراك)، عبد المؤمن ولد قدور، في محاضرة ألقاها في مجلس الأمة (الغرفة السفلى للبرلمان الجزائري)، في 14 مايو/ أيار الجاري، هو والفريق الذي يعمل معه، متحدثا عن حصيلة الشركة العملاقة لعام 2017.
تحدث عن الحصيلة والآفاق، وكذلك عن تشخيص (تدقيق) لوضع الشركة ماضيا وحاضرا وإلى أفق 2030. من خلال ما قاله، يمكن، بدايةً، الإشارة إلى تناقضات صارخة بين ما قاله وما يتحدث به وزراء في الحكومة الجزائرية، حيث إنه، وبحضور رجل الأعمال الجزائري حداد، المنتشي، رفقة رئيس الحكومة، عن "تنويع الاقتصاد الجزائري". قال، بصريح العبارة ".. ستبقى الجزائر، وإلى مستقبل متوسط المدى (20-30 عاما) حبيسة المنظومة الريعية"، أي أنه لا جدوى من برامج التنويع الاقتصادي، مؤكّدا، في حديثه، أن التعويل، كل التعويل، على المحروقات لتحريك عجلة اقتصاد ريعي بامتياز لا ينتعش إلا في ظل ارتفاع الأسعار. اكتشاف الحقول الجديدة وتوافق الفاعلين الأساسيين للسوق النفطية الدولية على خفض للإنتاج مع رجاء تقلبات في أوضاع جيو - سياسية قد تساهم (على غرار ما يجري في الشرق الأوسط والخليج) في دفع منحنى تلك الأسعار إلى سقف المائة دولار، السعر العادل الوحيد الحقيقي لرفع تحدي استمرار إمكانية شراء "السلم الاجتماعي" وإدامة منظمة "الريع"، على ما هي عليه.
وعلى الرغم من أن عنوان المحاضرة كان واضحا، فقد تضمن الإشارة إلى "الجزائر بين الانتقال الطاقوي والتنوع الاقتصادي"، إلا أنه أكد أمام الرجل الثاني في الدولة، رئيس مجلس الأمة، أن الانتقال الطاقوي هو للغاز الصخري، وأن التنويع الاقتصادي ليس مبرمجا على خلفية بقاء المنظومة الريعية سيدة الموقف تتابع منحنى أسعار المحروقات، ارتفاعـا ونزولا، من دون وجود خطة اقتصادية ما لرؤية بديلة تصنع خريطة طريق جديدة لجزائر قوية باقتصاد متنوع، حقيقة لا مجازا.
عند التّدقيق في فحوى المداخلة والنقاشات التي أعقبتها، يمكن الوصول إلى نتائج يمكن إجمالها في أن العنوان الحقيقي لمستقبل الاقتصاد الجزائري ليس في التنوع/ التنويع والخروج من منظومة الريع، بل في إدامة الاتكال والتعويل على ارتفاع الأسعار والاستثمار في عمليات الاستخراج والاستكشاف لحقول جديدة، وهو ما يؤكد أن الخطاب الذي انتشر، في الشهور الأخيرة، عن ضرورة الخروج من منظومة الريع، هو من دون مضمون في غياب إستراتيجية اقتصادية واضحة بخيارات بديلة، وبعنوان كبير هو "الكفاءة والجدوى"، وصولا إلى الرشادة المطلوبة على المديين، المتوسط والطويل.
وللنتيجة الثانية صلة بضرورة استلهام التشخيص الذي دقق في وضع الشركة النفطية، وتوصل، على إثره، فريق ولد قدور إلى وضع استراتيجية عملية ستضاعف من إيرادات الشركة في غضون العام 2030. عندما استمع الحضور إلى تلك الإستراتيجية، تم التأكد من أن ثمة عملا كبيرا ينتظر اقتصاد الجزائر، فالتشخيص يوصل إلى فهم واقع الآلة الاقتصادية الجزائرية المفرّغة من مضمون الاستقلالية عن المنظومة الريعية والاتجاه ببوصلة التغيير نحو تبني إستراتيجية اقتصادية شاملة، بطموح تجسيد الهدف المنشود، وهو الوصول إلى مصاف الدول الناشئة.
والنتيجة الثالثة التي يمكن الخروج بها، بعد المحاضرة، التأكد من أن ثمّة نية في البقاء خارج العولمة وخارج دائرة التخطيط لبلوغ مرتبة الاقتصاد الناشئ، حيث إن التخطيط للشركة النفطية هو محور الاهتمام، وليس الاقتصاد الجزائري برمته، بمعنى أن الاهتمام منصبٌّ على الأخذ بزمام الشركة، للوصول إلى مصاف الشركات الخمس الأولى في العالم (من حيث حجم الشركات النفطية الوطنية)، ما يعني أن الموارد، الإمكانات والتخطيط كله، هو لبلوغ هذا المسعى، حتى وإن كلف، ذلك، البقاء في ذيل ترتيب جل المؤشرات العالمية، من حيث حرية العمل، حرية تحرك الرساميل المالية، درجة الانخراط في الاقتصاد العالمي، درجة التطور التكنولوجي... إلخ.
النتيجة الرابعة، عدم الأخذ بآراء الأكاديميين والخبراء بالاتجاه نحو استغلال إمكانات الجزائر العملاقة في الطاقات البديلة (الرّيحية والشمسية، خصوصا) والتركيز، على عكس ذلك، على الاتجاه إلى استغلال الغاز الصخري، على الرغم من أضراره على البيئة، من ناحية، ورفض المجتمع المدني والحركات الجمعوية البيئية هذا الحل، من ناحية ثانية.
ويدلّ هذا على أن ثمّة تخطيطا للإبقاء على دواليب الاقتصاد موجهة صوب الريع، لما فيه من فوائد إلغاء إمكانية التحرّر من تلك المنظومة وتبعاتها، وفي مقدمها الاستئثار بالقرار الاقتصادي، بل بالقرار المصيري للبلد كله، لصالح فئة دون عموم الشعب، إضافة إلى تمكين تلك الفئة، من خلال منظومة الريع، من الاستمرار في شراء السلم الاجتماعي، أي عدم التعرّض لمغامرة المشاركة، يوما ما، في القرار السياسي عبر انتخاباتٍ تتيح المراقبة لصرف المال العام أو المطالبة، ولو بعد حين، بالنزاهة/ الشفافية/ المحاسبة، ثلاثي الرعب لكل منظومةٍ تسلطيةٍ في عالمنا العربي.
أتاحت المحاضرة، أيضا، مساحة للتفكير في الفرص الضائعة على الاقتصاد الجزائري، والتي تحدث عنها أحد المتدخلين، بعد نهاية حديث مسؤول الشركة النفطية، وفي مقدمتها فرصة
مشروع "ديزرتك" لاستغلال الطاقة الشمسية في الجنوب الشرقي الجزائري، في إطار مشروع عملاق جزائري - ألماني كان من الممكن أن يتيح للجزائر، لو تمّ تبنيـــه وإشراك القدرات الأكاديمية الجزائرية الكفؤة في المجال، مداخيل مستقرة وضخمة، إضافة إلى انعكاسات المشروع على التشغيل ونقل التكنولوجيا وتغيير توازنات التوزيع السكاني في الجزائر، بإتاحة فرص الاستثمار في الزّراعة الصحراوية، وما كان سيتيحه من تحقيق الأمن الغذائي، بل، على المديين المتوسط والطويل، كان سيتيح فرصا لاحتواء أخطار عدم الاستقرار في المنطقة السّاحلية، بتمكين التنمية من التمدد جنوبا نحو مالي والنيجر. باختصار، كان يمكن للمشروع، لو تم تجسيده، أن ينقل الجزائر، حقا، صوب مكانة الاقتصاد الناشئ.
تؤدي الملاحظات السابقة وغيرها، مما يطرحه خبراء اقتصاديون أكفاء، إلى سؤال محوري: لماذا تتم إضاعة هذه الفرص والاستمرار في اجترار السياسة الاقتصادية نفسها، الصانعة للفشل، في وضع لا يرضي إمكانات بلد بحجم قارة وقدراته؟
تلك، في الحقيقة، أم الإشكالات، وتحتاج للإجابة عنها جلسات تفكير، نقاش وتحاور بين فئات المجتمع الجزائري كله. وطبعا، لا يحتاج اللبيب أن يفهم أن إدامة هذا الوضع هو، في الحقيقة، إدامة للاستعصاء عن التغيير. وهو ما أدى إلى أن يقول خبير اقتصادي، بمرارة، إن الاقتصاد الجزائري لم يتقدّم، قيد أنملة، من 1963 إلى 2010 (تاريخ كتابته كلمته). ولا تعليق.
هذا ما تفهمه، وأنت تستمع إلى المدير العام لشركة النفط الجزائرية (سوناطراك)، عبد المؤمن ولد قدور، في محاضرة ألقاها في مجلس الأمة (الغرفة السفلى للبرلمان الجزائري)، في 14 مايو/ أيار الجاري، هو والفريق الذي يعمل معه، متحدثا عن حصيلة الشركة العملاقة لعام 2017.
تحدث عن الحصيلة والآفاق، وكذلك عن تشخيص (تدقيق) لوضع الشركة ماضيا وحاضرا وإلى أفق 2030. من خلال ما قاله، يمكن، بدايةً، الإشارة إلى تناقضات صارخة بين ما قاله وما يتحدث به وزراء في الحكومة الجزائرية، حيث إنه، وبحضور رجل الأعمال الجزائري حداد، المنتشي، رفقة رئيس الحكومة، عن "تنويع الاقتصاد الجزائري". قال، بصريح العبارة ".. ستبقى الجزائر، وإلى مستقبل متوسط المدى (20-30 عاما) حبيسة المنظومة الريعية"، أي أنه لا جدوى من برامج التنويع الاقتصادي، مؤكّدا، في حديثه، أن التعويل، كل التعويل، على المحروقات لتحريك عجلة اقتصاد ريعي بامتياز لا ينتعش إلا في ظل ارتفاع الأسعار. اكتشاف الحقول الجديدة وتوافق الفاعلين الأساسيين للسوق النفطية الدولية على خفض للإنتاج مع رجاء تقلبات في أوضاع جيو - سياسية قد تساهم (على غرار ما يجري في الشرق الأوسط والخليج) في دفع منحنى تلك الأسعار إلى سقف المائة دولار، السعر العادل الوحيد الحقيقي لرفع تحدي استمرار إمكانية شراء "السلم الاجتماعي" وإدامة منظمة "الريع"، على ما هي عليه.
وعلى الرغم من أن عنوان المحاضرة كان واضحا، فقد تضمن الإشارة إلى "الجزائر بين الانتقال الطاقوي والتنوع الاقتصادي"، إلا أنه أكد أمام الرجل الثاني في الدولة، رئيس مجلس الأمة، أن الانتقال الطاقوي هو للغاز الصخري، وأن التنويع الاقتصادي ليس مبرمجا على خلفية بقاء المنظومة الريعية سيدة الموقف تتابع منحنى أسعار المحروقات، ارتفاعـا ونزولا، من دون وجود خطة اقتصادية ما لرؤية بديلة تصنع خريطة طريق جديدة لجزائر قوية باقتصاد متنوع، حقيقة لا مجازا.
عند التّدقيق في فحوى المداخلة والنقاشات التي أعقبتها، يمكن الوصول إلى نتائج يمكن إجمالها في أن العنوان الحقيقي لمستقبل الاقتصاد الجزائري ليس في التنوع/ التنويع والخروج من منظومة الريع، بل في إدامة الاتكال والتعويل على ارتفاع الأسعار والاستثمار في عمليات الاستخراج والاستكشاف لحقول جديدة، وهو ما يؤكد أن الخطاب الذي انتشر، في الشهور الأخيرة، عن ضرورة الخروج من منظومة الريع، هو من دون مضمون في غياب إستراتيجية اقتصادية واضحة بخيارات بديلة، وبعنوان كبير هو "الكفاءة والجدوى"، وصولا إلى الرشادة المطلوبة على المديين، المتوسط والطويل.
وللنتيجة الثانية صلة بضرورة استلهام التشخيص الذي دقق في وضع الشركة النفطية، وتوصل، على إثره، فريق ولد قدور إلى وضع استراتيجية عملية ستضاعف من إيرادات الشركة في غضون العام 2030. عندما استمع الحضور إلى تلك الإستراتيجية، تم التأكد من أن ثمة عملا كبيرا ينتظر اقتصاد الجزائر، فالتشخيص يوصل إلى فهم واقع الآلة الاقتصادية الجزائرية المفرّغة من مضمون الاستقلالية عن المنظومة الريعية والاتجاه ببوصلة التغيير نحو تبني إستراتيجية اقتصادية شاملة، بطموح تجسيد الهدف المنشود، وهو الوصول إلى مصاف الدول الناشئة.
والنتيجة الثالثة التي يمكن الخروج بها، بعد المحاضرة، التأكد من أن ثمّة نية في البقاء خارج العولمة وخارج دائرة التخطيط لبلوغ مرتبة الاقتصاد الناشئ، حيث إن التخطيط للشركة النفطية هو محور الاهتمام، وليس الاقتصاد الجزائري برمته، بمعنى أن الاهتمام منصبٌّ على الأخذ بزمام الشركة، للوصول إلى مصاف الشركات الخمس الأولى في العالم (من حيث حجم الشركات النفطية الوطنية)، ما يعني أن الموارد، الإمكانات والتخطيط كله، هو لبلوغ هذا المسعى، حتى وإن كلف، ذلك، البقاء في ذيل ترتيب جل المؤشرات العالمية، من حيث حرية العمل، حرية تحرك الرساميل المالية، درجة الانخراط في الاقتصاد العالمي، درجة التطور التكنولوجي... إلخ.
النتيجة الرابعة، عدم الأخذ بآراء الأكاديميين والخبراء بالاتجاه نحو استغلال إمكانات الجزائر العملاقة في الطاقات البديلة (الرّيحية والشمسية، خصوصا) والتركيز، على عكس ذلك، على الاتجاه إلى استغلال الغاز الصخري، على الرغم من أضراره على البيئة، من ناحية، ورفض المجتمع المدني والحركات الجمعوية البيئية هذا الحل، من ناحية ثانية.
ويدلّ هذا على أن ثمّة تخطيطا للإبقاء على دواليب الاقتصاد موجهة صوب الريع، لما فيه من فوائد إلغاء إمكانية التحرّر من تلك المنظومة وتبعاتها، وفي مقدمها الاستئثار بالقرار الاقتصادي، بل بالقرار المصيري للبلد كله، لصالح فئة دون عموم الشعب، إضافة إلى تمكين تلك الفئة، من خلال منظومة الريع، من الاستمرار في شراء السلم الاجتماعي، أي عدم التعرّض لمغامرة المشاركة، يوما ما، في القرار السياسي عبر انتخاباتٍ تتيح المراقبة لصرف المال العام أو المطالبة، ولو بعد حين، بالنزاهة/ الشفافية/ المحاسبة، ثلاثي الرعب لكل منظومةٍ تسلطيةٍ في عالمنا العربي.
أتاحت المحاضرة، أيضا، مساحة للتفكير في الفرص الضائعة على الاقتصاد الجزائري، والتي تحدث عنها أحد المتدخلين، بعد نهاية حديث مسؤول الشركة النفطية، وفي مقدمتها فرصة
تؤدي الملاحظات السابقة وغيرها، مما يطرحه خبراء اقتصاديون أكفاء، إلى سؤال محوري: لماذا تتم إضاعة هذه الفرص والاستمرار في اجترار السياسة الاقتصادية نفسها، الصانعة للفشل، في وضع لا يرضي إمكانات بلد بحجم قارة وقدراته؟
تلك، في الحقيقة، أم الإشكالات، وتحتاج للإجابة عنها جلسات تفكير، نقاش وتحاور بين فئات المجتمع الجزائري كله. وطبعا، لا يحتاج اللبيب أن يفهم أن إدامة هذا الوضع هو، في الحقيقة، إدامة للاستعصاء عن التغيير. وهو ما أدى إلى أن يقول خبير اقتصادي، بمرارة، إن الاقتصاد الجزائري لم يتقدّم، قيد أنملة، من 1963 إلى 2010 (تاريخ كتابته كلمته). ولا تعليق.