يرى المصدر أن براغماتية الإدارة الفرنسية، التي تمثل تيار يمين الوسط، تناغمت مع خطاب السيسي في الغرف المغلقة بصورة "أعلى من مستوى توقعات الخارجية المصرية" وهو ما دفع أحد المسؤولين المرافقين للسيسي إلى مداعبة وزير الخارجية سامح شكري بقوله "ألم نكن غاضبين من فوز هذا الرجل"، في إشارة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي منح السيسي صكاً فرنسياً غير مسبوق بعدم التدخل في الشؤون الداخلية المصرية المتعلقة بحقوق الإنسان وتداول السلطة، بعبارته التي قد يتذكرها التاريخ طويلاً: "لا نعطي دروساً للآخرين" رداً على صحافي وجه إليه سؤالاً استنكارياً عن سبب صمت فرنسا على تجاوزات السيسي في الملف الحقوقي.
لكن رغم التناغم الذي بدا واضحاً في حديث السيسي وماكرون خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد مساء أول من أمس في قصر الإليزيه –وحاز اهتماماً مصرياً واسعاً بسبب اعتراف السيسي على الملأ بسوء الأوضاع التعليمية والصحية والاجتماعية في بلاده- إلا أن الغرف المغلقة شهدت فتح الملفات السياسية المصرية بطريقة يصفها المصدر الدبلوماسي نفسه بـ"الخجولة" فقط بغرض "السد الصوري" لبعض الثغرات التي قد يستغلها مجلس النواب الفرنسي أو دوائر في الحزب الحاكم لتعطيل تنفيذ الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تم توقيعها خلال الزيارة، وبالأخص المتعلقة بتطوير التعاون العسكري وشراء مصر مزيداً من الأسلحة الفرنسية في المستقبل، بالإضافة إلى بعض الاتفاقيات الصغيرة مع شركات فرنسية لتمويل وتدعيم مبادرات ومشروعات أطلقها السيسي لتشغيل الشباب والاستصلاح الزراعي ولم تؤت ثمارها حتى الآن.
ويوضح المصدر أن "فرنسا لن تمانع في المضي قدماً لتوريد 12 طائرة رافال جديدة إلى مصر، وفق المنصوص عليه في الاتفاق الأول الذي تضمن 24 طائرة عام 2015، إلاّ أن هناك متطلبات يعمل ماكرون ووزير الدفاع برونو لومير على استيفائها في ما يتعلق بملف حقوق الإنسان تحديداً، ولذلك تم فتح هذا الملف خلال المباحثات الموسعة بين وفدي البلدين وتم الاكتفاء بردود السيسي على الأسئلة من دون التعقيب عليها، مما يشي باتجاه النية لبيع مزيد من الطائرات، وكذلك الأسلحة الأخرى التي عرضت نماذج منها على السيسي خلال اليوم الأول من زيارته في شركة "داسو".
وكان نصيب فرنسا من الأموال المصرية منذ تولي السيسي الرئاسة 950 مليون يورو مقابل شراء حاملتي المروحيات من طراز "ميسترال" والمحتمل حالياً أن يتم تأجير واحدة منهما على الأقل لروسيا، خاصة بعدما امتنعت باريس عن بيعهما لروسيا مقابل 900 مليون يورو فقط لأسباب سياسية، كما اشترى السيسي من باريس 24 طائرة مقاتلة من طراز رافال مقابل 5.2 مليارات يورو في ظل تراجع الطلب العالمي عليها.
ويؤكد المصدر أن اتجاه فرنسا لمزيد من التساهل مع مصر، بعدما كان الرئيس السابق فرانسوا هولاند ينتقد صراحة أوضاع حقوق الإنسان وتداول السلطة -دون أن ينعكس ذلك على تصرفات حكومته- يؤكد أن باريس تحاول جاهدة التخارج من الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط، على أن يكون الملف الليبي هو الأخير لتأمين عمقها الاستراتيجي الجنوبي عبر البحر المتوسط، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على دول أخرى كإيطاليا، وبدرجة أقل ألمانيا التي لا تزال مهتمة بما يجري في مصر ويؤدي الملف الحقوقي دوراً في بعض علاقاتها الثنائية بالقاهرة كاتفاقيات التعاون والتدريب الأمني.
ويستطرد المصدر قائلاً: "لم يتحدث مسؤول فرنسي مع السيسي حول الانتخابات الرئاسية، وربما لن يتساءل مسؤول أوروبي عن هذا الملف الآن، ليس فقط لأن اللهجة التي يستخدمها السيسي من موجات الهجرة غير الشرعية وانفجار الأوضاع الأمنية في مصر تخيف العواصم الأوروبية، ولكن أيضاً لأن دوائر عديدة في تلك العواصم ترى أن الربيع العربي الذي انطلق في 2011 لم ينعكس على أوروبا بالإيجاب، بل هزّ استقرارها وكبدها مزيداً من الخسائر المالية والاستراتيجية، وبالتالي فإن استقرار الوضع السيئ أفضل من العمل على تحسينه".
وفي هذا السياق يتوقع مصدر حقوقي مصري أن تشهد الشهور القليلة المقبلة مزيداً من الانتكاسات على صعيد الحريات والعمل الأهلي، على خلفية فشل المنظمات الحقوقية الدولية –وعلى رأسها هيومن رايتس ووتش- ونشطاء مصريين وأوروبيين في استمالة الإدارة الفرنسية لبذل مزيد من الضغوط على السيسي، وذلك في إطار المساعي المستمرة لهؤلاء لتشكيل "لوبي يساري أو حقوقي" مضاد لمجموعات رجال الأعمال واليهود التي ينجح السيسي في استمالتها بمختلف العواصم الكبرى، سواء من خلال استخدام عقود الشراكة كأداة للتقرب وإسكات الانتقادات، أو من خلال خطابه القريب من الأهداف الإسرائيلية في المنطقة ومبادرته الأخيرة للمصالحة الفلسطينية والتي دائماً ما يقول إن من أهدافها حماية أمن المواطن الإسرائيلي.
وانتهج السيسي استخدام المناقصات والتعاقدات للتقرب من الحكومات الأجنبية بانتظام منذ صعوده للسلطة، فأسند إلى شركة "روس آتوم" الروسية تنفيذ وتشغيل وإدارة محطة الضبعة النووية تقرباً من موسكو على الرغم من المعارضة الشعبية والتقنية لإنشاء تلك المحطة والحديث المطرد عن ضعف مردودها مقابل ما ستتكبده مصر من أموال نظير الاقتراض طويل الأجل من روسيا لتمويلها، فضلاً عن شراء مصر مقاتلات ومروحيات من طرازي "ميغ 29 وكا 52 كا".
كما منح السيسي الشركات الألمانية –وأبرزها سيمنز- عقوداً لإنشاء ورفع كفاءة محطات الكهرباء الرئيسية على مستوى الجمهورية، ومكّنها من إنشاء شركات بالمساهمة مع الجيش، بقيمة إجمالية تخطت 8 مليارات يورو. ويعتبر مراقبون هذا التعاقد هو حجر الأساس في اعتراف برلين بشرعية السيسي واستضافته مرتين وزيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى القاهرة في مارس/آذار الماضي، وتراجع ضغوط ألمانيا على مصر لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، واقتصارها على ضمان السماح لمنظماتها الإنسانية بالعمل في بعض المشروعات بالتعاون مع الوزارات المصرية المعنية، وبعد ذلك تم الاتفاق على شراء مصر غواصتين من طراز "تايب 42-209".
وفي الوقت نفسه حصلت شركة "إيني" الإيطالية العملاقة للنفط والغاز حق تشغيل وإنتاج الغاز الطبيعي من حقل "ظهر" العملاق ليضاف لسلسلة مشروعاتها في مصر، والتي جعلت منها الشريك الأساسي لمصر في ذلك المجال ساحبة البساط من شركة "بريتش بتروليوم" البريطانية، خصوصاً على صعيد الحقول المكتشفة حديثاً. وسبق أن قالت مصادر دبلوماسية لـ"العربي الجديد" إن صفقة عودة السفير الإيطالي إلى القاهرة رغم عدم تحقيق تقدم في تحقيقات مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، كانت قائمة في جزء منها على منح تسهيلات ومزايا إضافية لعملاق الطاقة الإيطالي. وكانت أحدث محطات هذا النهج إسناد عملية كبرى لتوريد 100 جرار سكة حديد بمبلغ 575 مليون دولار لشركة "جنرال إليكتريك" الأميركية.