"سبوتلايت": عوالم سفلية في قمة البرج

21 مارس 2016
(لقطة من الفيلم)
+ الخط -

منذ عرضه الأول في "مهرجان البندقية"، لقي فيلم "سبوت لايت"، تثميناً من قبل النقّاد الذين اعتبروه من أفضل وأجرأ الأفلام التي تدين انتهاكات بعض من يعملون في الكنيسة، إلى جانب قدرته الكبيرة على التعبير عن هذه القصّة سينمائياً.

ورغم عدم إثارته ضجّة إعلامية كبيرة، كالتي أثارها فيلم "العائد" مثلاً، إلا أن الفيلم كان قد رُشّح لستّ جوائز في أوسكار، حصل منها على اثنتين عن أفضل صورة وأفضل سيناريو أصلي، ليعيد بذلك الاعتبار إلى صحافة التحقيق.

"سبوت لايت" هو اسم فريق صحافي يعمل ضمن صحيفة "بوسطن غلوب"، وعدد الصحافيين فيه أربعة: مساعد مدير التحرير روبي روبنسون (أداء مايكل كيتون)، وساشا فايفر (راشيل ماكآدمز)، ومات كارول (برايان دارسي)، والصحافي مايكل ريزيندس (مارك روفالو).

الفريق كان يعمل بشكل مستقل ويحقّق في قضايا شائكة قد تبلغ مدّة عمله عليها شهوراً أو سنوات. بشكل سريع وعن طريق أول مشاهد الفيلم، نتعرّف على نوعية القصص المقترحة علينا، فداخل مخفر شرطة يعمل الجميع تقريباً - بما في ذلك الشرطة ونائب المدّعي العام - على إخفاء معالم جريمة تحرّش قس بطفل صغير وإبعاده عن المحاكمة والتحقيقات الصحافية.

الأمر كان يسير على هذا النحو في المرّات الكثيرة التي تحصل فيها قضايا تحرّش تكون الكنيسة طرفاً فيهاً، لكن قبل أن يقرّر فريق "سبوت لايت" العمل على هذه القضية.

الصحيفة استقبلت مدير تحرير جديداً هو مارتي بارون (أداء ييف شرايبر). يُظهر الرجل منذ البداية حماساً كبيراً من أجل العمل برؤية جديدة، تجعل الصحيفة في الصدارة. وفي اجتماعه الأول مع زملائه الجدد، يفاجئ الجميع باقتراح العمل على قضية التحرّش تلك، والتي كانت تغلق في كل مرّة. وعندما فرضت القصّة نفسها على الجميع، انطلق الفريق في عمله. مارتي بدأ بطلب الطعن في حجب القضية والإفراج عن الوثائق المتعلّقة بها وهو ما اعتبر مقاضاة للكنيسة الكاثوليكية ومواجهة مباشرة مع الكاردينال، كما جاء في أحد الحوارات.

كانت الكنيسة تحمي نفسها من داخل النظام القضائي، بحيث يصبح أمر متابعتها مستحيلاً، فالقضايا تُحجب بعد ثلاث سنوات، وهي تستغرق وقتاً أكثر من ذلك للتقديم، إضافة إلى عدم رغبة الضحايا في الظهور إعلامياً. وصعوبة الوصول إلى الوثائق التي تدين المتحرّشين.

رغم كل ذلك، حفر "سبوت لايت" في هذه القضية وأعادها إلى الواجهة من جديد وأنجز تقريره عن الموضوع. وبعد نشره مباشرةً، وصلت مئات الاتصالات إلى مكاتبهم تقدّم شهادات عن قضايا تحرّش ضد الكنيسة. ومع مطلع سنة 2002، كان عدد القصص التي نشرتها الصحيفة 600 قصة.

إلى جانب "سبوت لايت"، هناك أفلام أخرى اتّخذت مهنة الصحافة موضوعاً لها، لكنها تناولت قصصاً عن محقّقين أفراد وعلاقتهم بالمهنة؛ ولم تنقل إلينا فريق تحقيق مثل "سبوت لايت"، ولا قصّة مثل قصّته. الفرق أيضاً أن باقي الأفلام كانت تقدّم ما يحيط بالمهنة وقدرتها على التغيير.

وهذا جانب مهم؛ يمكن هنا ذكر فيلم "اقتل الرسول" (2014) لـ مايكل كويستا، عن الصحافي غاري ويب الذي أنجز تحقيقاً عن ضلوع المخابرات الأميركية في توزيع أطنان من الكوكايين داخل الأراضي الأميركية، خصوصاً استهدافها لمناطق عيش السكان السود، وكانت تموّل بمداخيلها جيش المتمرّدين في نيكاراغوا. قبل هذا الفيلم، هناك أفلام مثل "كل رجال الرئيس" (1976) لـ آلان جي باكولا، والذي تناول علاقة الصحافة بقضية "ووترغيت" في عهد الرئيس نيكسون، أو "ذي إنسايدر" (1999) لـ مايكل مان، أو الفيلم الدنماركي "المثالي".

كلّها كانت أفلاماً مهمّة عن مهنة الصحافة، وبعيداً عن أية مقارنات فنية بينها وبين "سبوت لايت"، فكلّها قاربت تجارب فردية لصحافيين أو مصادرهم، بينما في "سبوت لايت" يقدّم توم مكارثي فيلماً عن فريق يعمل مثل خلية، وعن قدرة صحافة الاستقصاء على إسقاط أبراج الفساد.

ربما تكون جائزة أفضل فيلم التي حصدها في جوائز الأوسكار الأخيرة أهم تتويج له. لكن فوزه أيضاً بجائزة السيناريو، الذي كتبه المخرج بالتعاون مع السيناريست جوش سينجر، هو تتويج يحتاج إلى وقفة؛ إذ عمل ماكارثي مع طاقم مميّز من الممثّلين بداية بـ روفالو الذي تماهى مع مهنة الصحافي المشاكس المستعد للانتظار ساعات طويلة خلف أبواب المكاتب للحصول على خبر.

يظهر في أحد المشاهد وقد نسي الأكل، أو حتى الشعور بأبنائه وزوجته في البيت، وكذلك قدّم شرايبر، في دور المحرّر الجديد مارتي بارون، أداء أنيقاً، خصوصاً في طريقة احتوائه للخلافات، أو دفع الفريق للتحقيق في قضية التحرّش.

وإضافة إلى جائزتي الأوسكار، فاز الفيلم بأزيد من مئة جائزة في مناسبات مختلفة. وقيمة الفيلم تعيد التذكير بقدرة السينما المستقلّة، والتي إن عملت تحت هذه الصفة تستطيع اقتناص قصصها، بعيداً عن الإطار المتحَكَّم فيه. ولولا ذلك لما شاهدنا عملاً بهذه الجودة. هذه الرسالة ظهرت في خطابات المخرج الكثيرة وفي مختلف حواراته عن الفيلم؛ حيث اعتبر نجاح "سبوت لايت" يجعل الناس على معرفةٍ بما حصل وما سيحصل، ويصبح باستطاعتهم تجنّب هذه الانتهاكات.


_____________
إضاءة زوايا مظلمة
لم يكن صعباً على فيلم "سبوت لايت" (بقعة ضوء) بلوغ تصوير مثالي للقصة من خلال استحضار تفاصيلها بشكل فني دقيق، لأنه جاء بعد عشر سنوات على تلك الأحداث المعروفة والمؤلمة وقد خفت الضجيج من حولها وربما حساسية الاقتراب منها. استطاع المخرج أن يعمل وراء الخطوط الحمراء، وأن يسلّط الضوء على زوايا معتمة كانت السينما تتجنبها، ولا سيما أن السيناريو اعتمد على وثائق حقيقية نشرتها الصحيفة عام 2001.



اقرأ أيضاً: أفلام التعزيم: إلى أن ينطق الشيطان

المساهمون