تعيش مدينة ميلانو الإيطالية حالياً أجواء معرض "زمن الكتب"، الذي أُقيم بعد جدال طويل مع منافستها مدينة تورينو، حيث تستضيف الأخيرة معرضاً عالمياً آخر للكتاب في شهر أيار/ مايو من كل عام.
هذه هي الدورة الأولى من المعرض، وتختتم مساء غدٍ الأحد، بمشاركة 524 دار نشر، ويتخللها 720 حدثاً ويحضر فيها بندوات وتواقيع وأمسيات نحو ألفي مشارك. وقد خصصت إدارة المعرض 16 صالة للاجتماعات، قاعة للموسيقى، فسحة للتعليم وغرف للمقابلات المهنية وفسحتين خاصتين: "أزمنة الكتب على الطاولة" لتذوق المأكولات الإيطالية، وأخرى ﻠ"مركز ميلانو العالمي لحقوق النشر وللوكالات الأدبية".
ولا تنحصر الفعاليات فقط على أرض المعرض الذي يقع على مساحة 35 ألف متر مربّع، إنّما يمتد إلى ضواحي المدينة ومدينة مونزا القريبة.
"إذا حدثت أشياء تتعلّق بمستقبل إيطاليا، إمّا أن تحدث في ميلانو، أو لا تحدث"؛ هذا التلميح المبطّن لعالم الاجتماع الإيطالي ماورو ماغاتّي، يمكن أن نعتبره صورة ثابتة بقيت عالقة في ذهن من يعيش أو زار عاصمة مقاطعة لومبارديا في السنوات العشر الأخيرة، ميلانو، التي لا تزال تعيش نشوة النجاح الذي حقّقته في معرض "إكسبو" العالمي في العام الماضي.
يقول الفيلسوف سلفاتور ﭭيكا "إكسبو كان بداية لسرد جديد، ولكنه مرتبط حتماً بنتيجته أيضاً، لأن هذا الحدث بالضبط جمع قطع الموزاييك التي كانت موجودة قبلاً، ولكنها كانت تنتظر من يضعها في نسقها الصحيح".
ومن ضمن هذه القطع التي تحدث عنها فيكا، ثماني جامعات تغصّ بالطلاب الأجانب، البورصة، متاحف تشمل كل أفرع الفن والتاريخ والعلوم، ووفود متتالية من صينيين وعرب بحثاً عن استثمار مضمون، كان آخرها شراء ناديي "ميلان" و"إنترناسيونالي" من قبل رجال أعمال صينيين وفيليبينيين.
يعود سبب هذا النجاح، حسب فيروتشّو ريستا، رئيس جامعة بوليتكنيكو، إلى أربعة عوامل: الانسجام ما بين المؤسسات الحكومية، المسؤولية الاجتماعية الجيدة، الرغبة في اقتناء الجمال والثقافة والتكنولوجيا، وأخيراً المهارة في التخطيط. الانسجام المؤسساتي بدأ في عام 2009، ذاك الذي أطلقوا عليه لاحقاً اسم "اللعب ضمن فريق أو مجموعة واحدة"، حيث اتّحدت فيه جهود البلدية، المقاطعة، عالم الشركات والتجمعات الأهلية والاجتماعية.
"والحال، تبادل المواقع في رئاسة البلدية والمقاطعة، لم يؤثر على سيرورة المشاريع، بل استمرت على المنوال نفسه وفي الاتجاه نفسه، ما أعطى قوة دفع كبيرة سواء لعالم الثقافة أو للمستثمرين المحليين والأجانب"، يضيف الاقتصادي ستيفانو بالياري، الذي يدير مشروع "هيومان تكنوبول" المختص في أبحاث الذكاء الاصطناعي.
وهذا صحيح لو أخذنا بالاعتبار وجود 4600 شركة عالمية في ميلانو توفر العمل لـ416 ألف موظف، بإيرادات سنوية يبلغ حجمها 200 مليار يورو، من بينها غوغل، ميكروسوفت، سامسونغ وأمازون التي تشكل رأس حربة للنشاطات الثقافية في المدينة بمساهماتها المتعددة.
لكن الكاردينال أنجلو سكولا له رأي آخر: "لا شك أن مدينتنا في ازدهار مستمر، رغم التناقضات والمشاكل التي لا تزال قائمة. مستوى المعيشة جيد في ميلانو، ولكن فقط عندما يكون متاحاً للجميع، لأنه لا يمكن السير بسرعتين مختلفتين"، في إشارة للبطالة وللحياة المزرية التي تعيشها شريحة من السكان في الضواحي وفي المجمّعات السكنية الشعبية.
التحدّي يكمن في الانتصار على ما سمّاه البابا فرنسيس "ثقافة النفايات" وعدم المساواة، وهذا يمكن تحقيقه فقط عبر الشغف والإحساس بمعادلة "أنا - على - اتصال". ويمكن ملاحظة هذه العلامات في الكنائس، حيث ظاهرة التفاعل في الأعمال التطوعية ما بين العلمانيين والكاثوليكيين ظاهرة للعيان.
ومن اللقاءات والنقاشات الكثيرة في المعرض، على كافة الأصعدة، بما في ذلك المواضيع الدينية، هنالك لقاءان مهمان يشهدهما معرض "زمن الكتب"، الأول مع الروائي الإنكليزي من أصل باكستاني محسن حميد مع الصحافي ماسّيمو جانّيني حول موضوع "خروج إلى الغرب، تصوّر الحاضر ما بين جدران العزل والانفتاح"، والثاني مع الفيلسوف الإنكليزي كوامي أنطوني أبّياه، من أم إنكليزية وأب غاني، الذي صرح قائلاً في مقابلة صحافية: "كثيرون ممّن يدّعون الدفاع عن الحضارة الغربية، لا يعرفون عملياً هذه الثقافة، التي يتشاركونها عبر الدراسة وليس عبر نوع من الإرث الجيني. من ناحية أخرى، المجموعات المعادية للأجانب نفسها، هي نتاج العولمة، ولا تختلف بشيء عن الجهاديين المتعصّبين".
من بين الضيوف المنتظرين أيضاً، الشاعر السوري أدونيس والروائي الإسباني خافيير ثيركاس والسكوتلندي إرفين ويلش.