"دوّامة": توثيق جلجلة السوريّ

01 يناير 2020
"دوّامة": توثيق الألم السوري (من الفيلم)
+ الخط -
اختبار سينمائي يخوضه الهولندي ميسجا بِكِل، باختياره تسجيلات مُصوّرة توثِّق تفاصيل كثيرة تتعلّق بـ"رحلات" سوريين و"مذكّراتهم"، أثناء خروجهم المأسوي من بلدهم المدمَّر باتجاه أمكنة خلاصٍ موعود. يحصل على عددٍ كبيرٍ منها، فيشتغل عليها لإنجاز جديد له بعنوان "دوّامة" (2018، هولندا، 45 دقيقة)، يختزل أحوال أناسٍ يواجهون أقسى المصاعب لبلوغ حدٍّ أدنى، على الأقلّ، من راحة وأمان. أشرطة الفيديو التي يجمعها تتحوّل، بفضل توليف مِنّو أوتّان، إلى سرد يجمع حساسية واقع بلغة تعتمد على قصص تتداخل في ما بينها لصُنع فيلمٍ يبدو، لوهلة، أنّه مائلٌ إلى كلام شعريّ يعكس قهراً وخيباتٍ وأحزاناً وآمالاً، بينما يجتهد (الفيلم) لتوثيق حالةٍ يعانيها كثيرون، والتوثيق مرتكز على تسجيلات وأقوالٍ وبوح وذكريات.

يختار ميسجا بِكِل مزيج الشعر والواقع والانفعال، مُصوّراً (يووست فان هِرْفينَان ومَرلين فان دِرْ وِرْف) متتالياتٍ تستكمل نصوص مغادرين بلدهم من أجل حياة مختلفة، ومتابعاً تلك الـ"رحلات" القاسية، بتمويهه (أحياناً) معالم مسارات وملامح وجوه، وتاركاً لراوٍ سرد تلك المقتطفات مما يُسمّيه بِكِل نفسه بـ"مذكّرات سوريين"، مُشيراً إلى أنّ القصص هذه "مروية بفضل أشرطة فيديو محفوظة في هواتف خلوية وأجهزة كمبيوتر محمولة وأجهزة لوحية"، وبعضها مبثوثٌ على الـ"إنترنت". رغم هذا، يقول بِكِل في بداية الفيلم إنّ أشرطة الفيديو التي يعتمدها مُصوَّرة بهواتف خلوية أو بكاميرات سوريين عديدين.

هذا كلّه يصنع "دوّامة"، المُشارك في البرنامج الوثائقي، في الدورة العاشرة (5 ـ 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"مهرجان أفلام حقوق الإنسان" في عمّان (الأردن). فيلمٌ يحيل المأساة إلى لغة بصرية، ويروي وجعاً وصداقات مبتورة وأحلاماً معلّقة بنبرة هادئة تشي بتمزّقات ناتجةٍ من ألمٍ دفينٍ، تصنعه حربٌ تؤدّي إلى تهجير، لكن الألم يختلط بأملٍ عميقٍ، فالضفّة البريطانية المقابلة للبلدة الفرنسية "كالي" تبدو قريبة. غير أنّ المسافة القريبة تلك تبدو في الوقت نفسه كأنّها عصيّة على مهاجرين يمخرون عباب البحر، ويشاهدون أناساً يسقطون في أعماقه كمن يغرق في لجّة جحيم مفروض عليه، ويصلون إلى برّ يأويهم، ويلتقون أفراداً يرافقونهم في خطوات يُفترض بها أنْ تكون الأخيرة قبل بلوغ خلاص مُنتظر.

ومع أنّ الوجع كبيرٌ والتمزّق قاسٍ، ينتبه كثيرون إلى أهمية التوثيق البصري، فيُحوّلون هواتفهم الخلوية إلى كاميرات تصوير، ويُسجّلون ما يتحوّل مع ميسجا بِكِل إلى شهادة تخرج من تقنية التسجيل إلى ما هو أبعد وأهمّ وأعمق: التقاط نبض الانفعال الفرديّ إزاء مصائب تُلاحق راغبين في عيشٍ هانئ وآمِن. في الوقت نفسه، يُتيح بِكِل لماضٍ مُقيم في بلدة أو مدينة سورية، لظهورٍ بصريّ يبدو انعكاساً لتأمّلات الراوي وذكرياته مع أصدقاء له في سورية، خصوصاً أنّ للراوي صديقاً لن يتمكّن من مرافقته إلى إنكلترا، فالموت بالمرصاد، والقهر طاغٍ. لهذا، يُهدي بِكِل فيلمه إلى مُعزّ البلخي (22 عاماً)، وشادي عمر قطاف (28 عاماً)، "اللذين يغرقان أثناء سباحتهما بين "كالي" و"دوفر"، عام 2014".

معروفٌ أن "كالي" الفرنسية محطة لمهاجرين كثيرين، يسعون إلى بلوغ الشاطئ البريطاني عبرها، "مختبئين في شاحنات أو عَبّارات". يقول ميسجا بِكِل إنّ سوريين عديدين يختارون السباحة للعبور بين البلدين/ المدينتين، مُضيفاً أنّ "دوّامة" يُمكن أن يكون "قصّة واحدٍ منهم". لذا، يحمل "دوّامة" مزيداً من الصُور التي تعكس حجم الخراب المعتمل في نفوسٍ توّاقة إلى خلاصٍ منشودٍ، والتي يجعها ميسجا بِكِل فيلماً وثائقياً يُضاف إلى لائحة الأفلام التي توثِّق سينمائياً شيئاً من خراب بلدٍ واجتماع وأناسٍ.
دلالات
المساهمون