"حكومات" ليبيا تعاكس التيار الوطني

02 ابريل 2016

ليبيون يدعمون الحكومة الجديدة في طرابلس (31 مارس/2016/Getty)

+ الخط -
من يتابع أحوال البلد الشقيق ليبيا يواجه صعوبةً في تعيين الثنائيات السلطوية، بين حكومة وفاق وحكومة إنقاذ، تضاف إليهما حكومة شرق ليبيا، بزعامة عبدالله الثني. وبينما انصب الجهد الإقليمي (دول الجوار) والدولي، على مدى العام الماضي على الأقل، في توحيد الأطر الليبية ضمن حكومة وطنية واحدة وجيش واحد، إلا أن هذا التوجه لا ينال رضى بعضهم، فهناك شُبهة التدخل الأجنبي وتنصيب رئيس حكومة من الخارج، هو فائز السراج! حسب رؤية حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل التي تبسط سيطرتها على العاصمة. علماً أن "التدخل الأجنبي" نجم عن عجز الأطراف المحلية، وعدم رغبتها بالتوصل إلى حلول وفاقية بينها. وبما أن الاضطراب السياسي والسلطوي أدّى، ويؤدي، إلى اضطراب حبل الأمن في الداخل، وعلى الحدود، فلم يكن مستغرباً أن تتنادى دول الجوار والإقليم لمحاولة وضع حدٍّ لحال العبث في هذا البلد. والتدخل الأجنبي من مفردات الدعاية لأنظمة قومية، وسبق أن استخدمها العقيد معمر القذافي لإخضاع شعبه. العقلية الشمولية ما زالت تفعل فعلها لدى قوىً سياسية محلية، والتحذير من التدخل الأجنبي وسيلةٌ ذهبيةً للتمويه على السيطرة الفئوية، أو التقسيم والتقاسم في بلد عمر المختار. وفي حالة بلد آخر، هو سورية، جرى استخدام مقولة رفض التدخل الأجنبي لتقييد حركة المعارضة ومنعها من مجرد التفكير من الاستعانة بطرفٍ إقليمي، أو دولي صديق، لإنقاذ شعبها، وقد ظلت المعارضة تردد بصورة دفاعية رفضها لأي شكل من التدخل الأجنبي، حتى استفاقت هذه المعارضة، ووجدت أن النظام استعان بقوى أجنبيةٍ هائلة: إيرانية وأفغانية وباكستانية وروسية.
تجهد أطرافٌ وطنيةٌ في ليبيا من أجل الدفع نحو حلولٍ داخليةٍ لدرء التدخل الخارجي، في حال صيرورة ليبيا بؤرة توتر أمني، تُصدّر جماعات العنف المسلح إلى الخارج. واقع الحال أن الانشطارات على الأرض الليبية، وداخل الأجسام السياسية، يوفّر، وقد وفّر، فرصةً سانحةً لتسلل "داعش" إلى الداخل الليبي. ولا تعدو "داعش" أن تكون قوة تدخل وسيطرة أجنبية تعتمد أساليب إرهابية. وهي الأوْلى بمقاومة وجودها واستئصالها قوة أجنبية دخيلة، أما الأمم المتحدة التي رعت المباحثات الليبية الطويلة فهي ليست بمنزلة قوة أجنبية. وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه، أو تفاقم، فإن "داعش" سوف تتضخم وتقيم علاقاتٍ متشابكة مع جماعاتٍ محليةٍ، ومع مجموعات وعناصر وافدة من الخارج عن طريق التهريب، من أجل توطين الظاهرة، وجعلها الكتلة العسكرية الأكبر في البلاد، وبما ينذر بأفدح الأخطار. وهذا ما يتجاهله الذين يضعون العصيّ في دواليب مسيرة الوفاق، والذين يُمنّون النفس بدوام تمتعهم بالسلطة بطريقة وضع اليد، بذرائع لا تنتهي، ويسهل اختراعها في ظل الفوضى القائمة التي طال أمدها، والتي تنعكس سلباً، ليس فقط على تدهور الأحوال الأمنية، إذ تشمل مختلف مظاهر الحياة، ومنها الوضع الاقتصادي الذي يشهد تدهورا متزايدا. وقد نشر "العربي الجديد" في 7 ديسمبر/كانون الأول الماضي تقريراً يحدّد مظاهر المأزق الاقتصادي في ليبيا، ومنها فقدان العملة الوطنية (الدينار) قيمتها، وانتشار الفساد بطريقة مهولة، وطباعة عملة ورقية بغير غطاء من معدن الذهب، مع نقص الاحتياطات الأجنبية، وقد ازداد هذا النقص مع انخفاض أسعار النفط في عام 2015، علاوة على مخاطر الوصاية الدولية على الأموال الليبية في الخارج، ثم انخفاض إنتاج النفط من مليون وستمائة ألف برميل في اليوم إلى 300 ألف برميل فقط في اليوم.
من المؤسف حقاً أن نمط الحياة الذي أرساه نظام القذافي، والقائم على تتفيه القانون، ورفض
وجود النقابات والأحزاب والجمعيات، وتبخيس أهمية العمل وقيمة الإنتاج، وازدراء التعليم والبحث العلمي، هذه المظاهر الشديدة السلبية، والتي تعني استقالة الدولة من أداء وظائفها في حسن استثمار الموارد الطبيعية والبشرية، وتنمية هذه الموارد وتطويرها، وضمانات تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، واختزال الدولة إلى محض سلطات أمنية ورقابية،.. نمط الحياة والتفكير هذا ما زال سائداً لدى قوى سياسية وعسكرية، وأخرى اجتماعية نافذة، تستحوذ على قدر كبير من السلطات، ويفرض إيقاعه، وكأن المشكلة، كل المشكلة، كانت تنحصر في شخص القذافي وعائلته وبطانته، من دون أن تمتد إلى اللانظام الذي أرساه، والذي يصطدم مع أبسط مفاهيم الدولة الحديثة. ويحِدّ من عودة البلاد إلى الحالة الطبيعية. ولكن، أية حالة طبيعية؟! فسلطات الأمر الواقع من مليشياتٍ مسلحةٍ ترفض التنازل عن وجودها وتشكيلاتها، هذه القوى لا تملك، كما يبدو، تصوراً عن الحياة الطبيعية سوى تلك الحياة التي سادت في عهد القذافي أربعة عقود عجاف، ولم يكن ينقصها سوى إزاحة شخص القذافي.
أمام الليبيين فرصةٌ سانحةٌ للالتفاف حول المجلس الرئاسي، وحكومة الوحدة الوطنية التي تبلورت عن الحوار الوطني المديد داخل ليبيا وخارجها زهاء عامين، كنقطة انطلاق لإرساء الحياة البرلمانية والدستورية، وانضواء المليشيات في جيشٍ وطنيٍّ مهني، وانبثاق سلطةٍ شرعيةٍ واحدةٍ ومؤقتةٍ قابلةٍ للتبديل في أول انتخاباتٍ، إذا ما أراد الناخبون ذلك. أما الخيار الآخر الذي تبشر به سلطات الأمر الواقع، فهو استمرار وجود حكومات ليبية في الشرق والغرب وجيوش هنا وهناك، وإدارة زعماء قبليين الحكم في مناطقهم، واستمرار اجتذاب "داعش" عناصر محلية وأجنبية مع تمدّد التنظيم، مستثمراً حالة الفوضى الأمنية وتعدد السلطات. وسيؤدي استمرار هذا الوضع، حُكماً، إلى طلب الليبيين تدخلاً خارجياً، من أجل التصدّي لهذا التنظيم الذي يقيم له إمارةً في مدينة سرت، ومن جهةٍ ثانيةٍ، لوضع حد لحالة الفوضى التي تحمل مختلف أنواع المخاطر.