بين 16 أكتوبر/تشرين الأول 2015 و18 يناير/كانون الثاني 2016، يُحقّق الفيلم السينمائي الجديد "حقيقة" (Truth) لجيمس فاندربيلت مليونين و531 ألفاً و323 دولارًا أميركيا كإيرادات "محلية" في أميركا الشمالية. الموقع الإلكتروني "موجو بوكس أوفيس"، المعني بالحركة المالية (إنتاجاً وإيرادات) للأفلام الأميركية المعروضة داخل الولايات المتحدّة الأميركية وخارجها، لم يذكر تكاليف إنتاجه، في حين أن "ويكيبيديا" تنقل عن المجلة السينمائية المتخصّصة "ذي هوليوود ريبورتر" أن تكلفته تبلغ 9 ملايين و600 ألف دولار أميركي فقط.
ينتمي "حقيقة" (تمثيل: كايت بلانشيت وروبرت رديفورد وتوفر غرايس وإليزابيث موس ودنيس كوايد) إلى نمط سينمائي هوليوودي، مرتبط بتصوير العلاقة القائمة بين الاشتغال الصحافي ـ الإعلامي ومهنيته وأسئلته الأخلاقية والثقافية والتقنية من جهة أولى، والقضايا العامة في السياسة والاقتصاد والأمن والمال والأعمال والصناعات وتجارة المخدّرات والأسلحة والمسائل الإعلامية ـ الصحافية نفسها أيضاً، من جهة ثانية. وإذ يُعتَبر "المواطن كين" (1961) لأورسون ويلز نموذجاً لمقاربة سينمائية لاذعة ومتهكِّمة لأحد أقطاب الإعلام الإذاعيّ ومساراته الحياتية والمهنية والأخلاقية؛ فإن "كلّ رجال الرئيس" (1976) لآلن ج. باكولا يُصبح، منذ إطلاق عرضه التجاري في 7 أبريل/نيسان 1976، أحد أبرز النتاجات الأميركية الفاضحة شيئاً من دهاليز السياسة وفسادها ومتاهاتها، عبر مهنة الصحافة المكتوبة، التي "تفضح" قيام رجال الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون بوضع أجهزة تنصّت ومراقبة داخل المقرّ العام لـ "الحزب الديمقراطي" الأميركي. القضية، المعروفة باسم "فضيحة ووترغايت" (نسبةً إلى مبنى المقرّ العام المُختَرَق لـ "الحزب الديمقراطي")، تنكشف بفضل جهود ثنائيّ صحافيّ يعمل في الصحيفة اليومية "واشنطن بوست"، ويتشكّل من كارل برنشتاين (داستن هوفمان) وبوب وودوورد (روبرت ريدفورد)، بدءاً من شهر يونيو/حزيران 1972، التي تؤدّي إلى استقالة الرئيس نيكسون في 9 أغسطس/آب 1974، أو بالأحرى التي تساهم فعلياً في الوصول إلى لحظة تقديم الاستقالة تلك.
نماذج
عنوانان اثنان لا يُلغيان نتاجاً مهمّاً من الأعمال السينمائية المتعلّقة بثنائية الصحافة ـ الإعلام والقضايا العامة، لكنهما يُشكّلان مرجعين أساسيين في كيفية صناعة فيلم سينمائيّ بديع، أولاً؛ وفي التوغّل داخل العوالم الخفية للمهنة ولـ "حيوات" عاملين فيها، بمستوى درامي ـ جماليّ آسر، ثانياً؛ وفي التأكيد ـ مباشرةً أو مواربةً ـ على مفردات المهنة وأخلاقياتها، ومدى ارتباط (أو ارتهان) إدارتها المالية أو التحريرية، أحياناً، لمصالح وقوى نافذة ومراكز سلطوية وشركات إعلانية، ثالثاً. إليهما، تُقدِّم هوليوود أفلاماً تروي فصولاً من مسارات عاملين في المهنة، أو آليات التنافس الداخلي بينهم، أو مقتطفات من الحيوات المختلفة لصحافيين ـ إعلاميين في إطار عائليّ أو داخل المؤسّسة أو المحيط الاجتماعي ـ الإنساني المقيمين فيه. روبرت ريدفورد نفسه يؤدّي ـ في "لقطة قريبة وشخصية" (1996) لجون آفنت ـ دور مراسل إعلامي يُشرف على التدريبات الأولى لمذيعة جديدة (ميشيل بفايفر)، وتنشأ بينهما أحاسيس رومانسية، قبل أن يسقط قتيلاً أثناء إحدى مهماته المهنية في أرض معركة ما.
اقرأ أيضًا: إيليا سليمان، عندما يكون الصمت تعبيرًا والسخرية كشفًا
أحد أبرز أفلام النوع هذا، متمثّلٌ بـ "عمتم مساءً، وحظّاً سعيداً" (2005) لجورج كلوني: قصّة حقيقية، تروي كيف أن الثنائي التلفزيوني المذيع ومقدِّم البرامج إدوارد أر. مورّو (ديفيد ستراثايم) والمنتج فْرَدْ فراندلي (كلوني)، اللذين يعملان في المحطة الأميركية "سي. بي. أس."، يُساهمان في "إسقاط" السيناتور جوزف ماكارثي، المعروف في خمسينيات القرن الـ 20 بأنه مُطلق عملية "مطاردة الساحرات"، بمُلاحقته كلّ من يُشتَبَه بأنه يساريّ أو شيوعيّ. يعتمد كلوني ـ المُشارك في كتابة السيناريو مع غرانت هسلوف ـ تقنية الأسود والأبيض، لإضافة لمسات إنسانية مؤثّرة على المسار الدرامي التصاعديّ، ليس فقط بالنسبة إلى عمل الثنائي والمحيطين به، بل أيضاً في الصراع الدائر بين العمل التلفزيوني والنقد الصحافي المكتوب لهذا العمل، ومدى تأثيراته النفسية والمعنوية على بعض الإعلاميين (ينتحر أحد هؤلاء بسبب قوّة الحملات النقدية المكتوبة في صحف أميركية ضدّه). فيلم قاسٍ وعنيفٍ في مضمونه وجمالياته ولغته البصرية المتينة الصُنعة، وفي تشريحه ـ بل تفكيكه ـ آليات العمل الإعلاميّ في مواجهة أحد "وحوش" السياسة في تحطيمه حيوات فنانين ومواطنين تُهمَتهم الوحيدة أنهم شيوعيون.
اقرأ أيضًا: عن سينما تلتقط نبض الثورات
مثلٌ آخر: "الجريدة" (1994) لرون هاورد (روبرت دوفال ومايكل كيتون)، المتوغّل في تفاصيل ذاتية وشخصية وعملية ومهنية لرئيس تحرير صحيفة نيويوركية يواجه تحدّيات جديدة، عائلية وشخصية ومهنية، بقبوله منصب رئيس تحرير صحيفة نيويوركية أخرى. هاورد نفسه يُحقِّق، في العام 2008، "فروست/ نيكسون" (فرانك لانغيلاّ ومايكل شين وكيفن بايكون)، المستند إلى قصّة واقعية عن صحافي بريطانيّ "يناضل"، في العام 1977، لإجراء حوار تلفزيوني مع الرئيس نيكسون المستقيل، فيتحقّق مراده، وتُجرى المقابلة. يُصوّر الفيلم مسار الصحافي وأسئلته المطروحة على أصول المهنة والتحضيرات اللازمة، وصولاً إلى الحوار نفسه وتداعياته، خصوصاً أن نيكسون "لا يعترف" (مباشرة) بمسؤوليته عن "ووترغايت". كيتون نفسه يؤدّي دور رئيس فريق عمل صحافي في جريدة "بوسطن غلوب"، يتولّى التحقيق في فضائح داخل الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن، نهاية التسعينيات الفائتة، وذلك في "سبوتلايت" (2015) لتوم ماكارثي.
فضيحة بوش الابن
يُمكن التوقّف أيضاً عند "أنا أحبّ المشاكل" (1994) لتشارلز شيّار: تصوير مشوِّق وممتع لتنافس "حادّ" بين صحافي (نك نولته) ومراسلة (جوليا روبرتس) يعملان في مؤسّستين صحافيتين مختلفتين يتابعان المواضيع نفسها تقريباً، بالإضافة إلى المشاعر المتناقضة الناشئة بينهما مهنياً، لكن أيضاً على مستوى الحبّ والتجاذب والعداء والنفور.
هذه أمثلة متفرّقة عن أفلام تساوي، في معالجاتها ومقارباتها وقراءاتها، ثنائية أساسية: المهنة ووظيفتها وكيفية اشتغالاتها من جهة أولى، والمسائل المطروحة في الحياة اليومية بمستويات العيش كلّها من جهة ثانية. المثل الأخير كامنٌ في "حقيقة" (2015) جيمس فاندربيلت: فريق عمل برنامج "60 دقيقة" (المحطة التلفزيونية الأميركية "سي. بي. أس. نيوز") "يُفجِّر" فضيحة مدوّية عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2004، تتمثّل بتهرّب الرئيس جورج بوش الابن (في الانتخابات تلك، يفوز بوش الابن بالرئاسة للمرة الثانية على التوالي) من الخدمة العسكرية مطلع شبابه، بفضل العلاقات العامة القوية التي تنسجها عائلته مع مسؤولين كبار في ولاية "تكساس"، معقل نفوذها الاقتصادي والمالي (بينهم قادة في المؤسّسة العسكرية الأمريكية)، خصوصاً والده، الرئيس جورج بوش، المتبوّأ رئاسة أمريكا بين العامين 1989 و1993.
اقرأ أيضًا: حضور أسمهان الذي لا يُحتمل
القصّة، بحدّ ذاتها، عادية. من جهة أولى، هناك مادة إعلامية (ذات أبعاد سياسية ـ أخلاقية ـ وطنية) "دسمة" يُمكن الاشتغال عليها عشية الانتخابات الرئاسية تلك. من جهة ثانية، هناك عالم متكامل من المهنة كوظيفة إعلامية واجتماعية وثقافية، ومن مفرداتها وآليات عملها. بين الجهتين، هناك متاهات عديدة، وكواليس تكشف شيئاً من مصالح مسؤولي الإدارة والتحرير، في مواجهة ردّة فعل أجهزة أمنية ـ استخباراتية على الفضيحة، تتمثّل (ردّة الفعل) بـ "تشويه" سُمعة المنتجة ماري مابس (بلانشيت) وأحد كبار مقدّمي البرنامج دان راثر (ريدفورد) وأعضاء فريق العمل الخاصّ بهما، و"وضع" الأولى (مابس) خصوصاً أمام لجنة تحقيق قضائية داخل المؤسّسة الإعلامية، قبل تمكّنها من مواجهة الجميع بما لديها من حقائق تؤكّد المضمون الأصلي للحلقة المذكورة.
بهذا المعنى، ينقسم الفيلم إلى فصلين اثنين أساسيين: الجهود المبذولة من قِبَل أعضاء فريق العمل للحصول على تأكيدات صارمة على مصداقية المعلومات والوثائق، والجهود المبذولة أيضاً، في مواجهة حملة التشويه المنطلقة من أقبية البيت الأبيض وأجهزته المختلفة. إحدى المفارقات الجميلة في البناء السينمائي كامنةٌ في السوية الدرامية والجمالية والفنية التي تستمرّ طوال الفيلم، التي تنجح في جعل الفصلين متشابهين تماماً في مستوى الإيقاع والمسار والجوانب الفنية والأدائية والتقنية. أي أن الاختلاف البصري الظاهر بين الفصلين ـ بالنسبة إلى نوعية الجهود المبذولة في مسألتي الموضوع الأساسي ومواجهة ردّة الفعل السياسية الرسمية ـ لم يكن اختلافاً بصرياً في آلية الاشتغال السينمائيّ، إذ يتمكّن جيمس فاندربيلت، الذي يكتب سيناريو الفيلم انطلاقاً من كتاب "حقيقة وواجب: الصحافة، الرئيس، وامتياز السلطة" (2005) لماري مابس نفسها، من وضع الفصلين في سوية درامية واحدة، مُلتقطاً فيهما كلّ ما يُمكنه أن يصنع فعلاً تشويقياً جاذباً، حتى في لحظات الانهيار الذاتيّ، والعزلة الفردية، والانكسار أمام سطوة الحملة وقسوتها.
"حقيقة" جيمس فاندربيلت فعلٌ سينمائيّ متكامل في تنسيق مضمونه الدرامي: أداء تمثيلي متماسك ومتين البنية، وحوارات مكثّفة وضاغطة وسريعة ومؤثّرة، وتوليف متناغم والمسار الحكائيّ المتشعّب في أكثر من اتجاه (الشخصي ـ الذاتيّ لكلّ إعلامي، البحث عن تفاصيل المادة، العمل بحدّ ذاته، مواجهة القضاء وشراسة السياسة وخبثها، إلخ)، وتسليط الضوء سينمائياً على تداخل النفسيّ الخاصّ بالشخصيات بالشأن العام للعمل الإعلامي برمّته.
(كاتب لبناني)