في فيلمه الأخير "جوّع كلبك" (2015)، لا يُبدي هشام العسري (1977) أيّة نية للتراجع عن سينماه القاسية، وهو خطّ إخراجي عُرف به قبل سنوات، من خلال أعماله "النهاية" و"هُم الكلاب" و"البحر من ورائكم". السيمات الفنية نفسُها تحضر في عمله الجديد، لكنه يصل هنا إلى مرحلة أعمق من الحفر في ذاكرة المغرب.
العنوان الذي يختاره العسري لفيلمه عبارة مألوفة في معجم المغاربة من خلال ارتباطها بالخطاب السياسي في البلاد؛ كان النظام يتّخذها قاعدة لحكم المغاربة، لأنها تقترن في العادة بالطاعة: "جوّع كلبك يتبعك". الكلب هنا هو الشعب الذي كلّما ذاق مرارة الجوع والقهر كان مطيعاً أكثر، وهي سياسة ما زالت آثارها بادية.
تضعنا الكاميرا، في أول مشاهد الفيلم، أمام سيّدة فقيرة وجهها يخبرك عن حياة دمّرها الزمن والفقر والحرمان. ترتدي، للمفارقة، جلباباً مغربياً وردي اللون عكْس واقعها المرّ. تصيح في وجه الكاميرا: "ليس لنا شيء، نحن نبيع السجائر، ليس لنا مال من أجل إيجار البيت أو الكهرباء، لنا الله فقط"، ثم تذرف دموعاً حارة. المشهد نفسه ينتهي به الفيلم.
لكن قبل أن تنهي السيدة كلامها، لم تنس أن تستدرك: "عاش الملك". العبارة الأخيرة في ماضي المغاربة وحاضرهم، لازمة لكل حديث عن السياسة، حتى وإن كان حديثاً عن ارتفاع ثمن السكّر أو الشاي، كدليل على أنك لست معارضاً أو ضد النظام، وتستطيع أن تنفذ بجلدك بمجرّد النطق بها. المرأة، في بداية الفيلم ونهايته، تفعل الشيء نفسه بعد تفريغ مخزون غضبها في وجه الكاميرا.
نحن في البداية أمام كاميرا وثائقية تترك الحرية للمرأة كي تتحدّث، كاميرا تفضح الواقع وتقدّمه من دون ماكياج. بعد مشهد البداية، تنتقل الكاميرا إلى الحياة العامة، تتعقّب حياة الناس في الشارع في زحمة السير؛ حيث لا أحد يرحم أحداً. تظهر بعد ذلك فتاة تجري، تلعب مثل الأطفال، تعلّق بأذنيها رجلي دجاجة، تنتقل بين الشوارع، تطلب من شابين جالسين إعطاءها درهماً كي تجعلهما يشاهدان ما يوجد تحت فستانها. تقدّم الكاميرا هنا الفضاء بشكل مميّز، وكأنها تقول: هذه هي الدار البيضاء، المدينة التي تشبه حوتاً كبيراً على وشك النفوق.
ننتقل إلى مكان مغلق ومظلم، ينجح العسري في جعلنا نستشعر عفونته ورطوبته، يستعد فريق تصوير في خوف شديد لتصوير مقابلة صحافية. وقبل أن يدخل الضيف إلى البلاتو، نتعرّف للحظات على معاناة أصحاب هذه المهن، نتعرّف كذلك على موقف الناس من شهر رمضان بعيداً عن الخطاب المثالي المزيّف.
تظهر مخرجة البرنامج غيتا (لطيفة أحرار) مرتبكة تصرخ، تخفي هي الأخرى خوفاً شديداً، يتداول الكل اسم إدريس، ثم تتحدّد هوية الاسم لاحقاً بظهور إدريس (جيراري بن عيسى) شخص بملامح منهكة يرتدي معطفاً بنياً. إنه إدريس البصري، وزير الداخلية سابقاً في المغرب، الوزير الذي كان الخوف يخاف منه، الرجل الذي ساعد الملك الراحل الحسن الثاني على حكم المغرب بقبضة من حديد، شخص تدرّج من مفتّش شرطة إلى وزير داخلية، وعُرفت مرحلته بـ "سنوات الرصاص"، آلاف الاعتقالات التعسّفية، ومئات الاغتيالات.
كانت كلمة واحدة ضدّ النظام كفيلة بأن تجعلك تختفي، وما زال المغاربة يعيشون تبعات خوفهم من تلك المرحلة السوداء. وعندما تولّى محمد السادس الحكم سنة 1999، انتهى دور الجلاّد الذي قام به البصري لمدّة ثلاثين عاماً، أذاق فيها المغاربة كل أشكال القهر.
تنجح غيتا في إقناع البصري أن يتحدّث في مقابلة خاصة، يدخل حاملاً علبة بيضاء ثم يجلس ويبدأ بالحديث؛ يثرثر، يتحدّث عن الثورة، عن ليبيا، يردّد النشيد الوطني الليبي وليس المغربي، يصيح بأنه وطني، وأنه كان يقوم بعمله فقط. جرّب حالة الرعب التي أذاقها غيره، أراد أن يصرخ بأنه كبش فداء ضخم لكنه لم يجرؤ.
البصري كان مثل الصندوق الأسود، يعرف جيداً مفاصل الدولة، وأي كلام منه يهدّد الجميع، لذلك يخاف الجميع من حديثه. تستمر ثرثرته خارج البلاتو، يستجدي صحافي غيتا لكي تسمح له بالدخول، لكنها تمنعه. يقاطعهما صوت رصاصة فيسرعان إلى الداخل؛ إدريس الذي أطلق النار بعدما جاء أحدهم لاغتياله.
هنا، يقول البصري: "أنا من وضع سيناريوهات الاغتيالات والقتل هذه"، وبالتالي لا يمكن أن تنجح خطّة ضد مبتكرها. بدأ يصرخ وكأنه يطمئن الخائفين من كلامه بأنه لن يتحدّث، ولن يكتب مذكّراته، لأنها لن تُقرأ من شعب لا يقرأ.
يظهر من جديد ولع صاحب "النهاية" في تجريب لغة السينما، يختار كادرات غريبة؛ تُركز الكاميرا أحياناً على أجساد منفصلة عن رؤوسها، وكأن الشخصية هنا لا قيمة لها. المهم أن يصل كلامها، تتواصل اختيارات المخرج بكادرات مقلوبة، ثم بمرور سريع أمام وجوه. ينجح العسري - بانتقاله بين المشاهد - في خلق لغة أعمق من لغة الحوار، قادرة على خلق المعنى وتوليد دلالاته.
ما يلفت الانتباه هنا أن السينما المغربية ربحت مُخرجاً لم يتوقف عند نجاحه، بل يستمر في مشروعه، ولا يتنازل عن حق السينما في اقتناص قصصها، حتى وإن كانت أحياناً محاطة بأسلاك شائكة.
اقرأ أيضاً: هشام العسري.. الأحلام المغربية المعلّقة