"جنوب الملح": حكاية واحدة لا تكفي جزائر التسعينيات

12 نوفمبر 2015
(حي القصبة في الجزائر العاصمة، تصوير: رضا)
+ الخط -

لا زالت "العشرية السوداء" تصنع غوايتها، وتغدو، إثر تلاحق الأعمال الروائية التي تناولتها، موضوعاً مُفكّراً فيه كثيراً داخل المتن الروائي الجزائري؛ ربّما لأن الجنون والعبث مولّدان دائمان للحكاية وفرصة للروائي، أكثر من غيره، لمقاربة محنة حفرت عميقاً في الذاكرة الجزائرية.

في عمله الروائي الأوّل، "جنوب الملح"، الصادر حديثاً عن "دار البرزخ" في الجزائر و"دار الجديد" في لبنان، حاول الكاتب ميلود يبرير (1985)، صياغة رؤيته الخاصّة لسنوات العنف والإرهاب.

الملاحظ في الرواية، كما في كثير من أعمال الروائيين الشباب في الجزائر، تحرّرها من عِقال الإيديولوجيا الذي أتى على عدد من الروايات التي كان أصحابها منخرطين، بطرق مختلفة، في الصراع؛ ما جعل أعمالهم تبدو في شكل بيانات ولوائح سياسية.

طبع الهدوءُ الحكي في "جنوب الملح"، موفّراً للكاتب فرصة الفكاك من التصوّرات والاستنتاجات الجاهزة. لكن، وعلى عكس كثير من أعمال الجيل الجديد الأخرى، تلوح لغة مغايرة بتدفّقها السردي وتخلّصها من رطانة مكتسبة من "لغة الترجمة" التي أصبحت معضلة في الكتابة الروائية الجزائرية.

يتحدّث الروائي بلسان بطل روايته مصباح، من خلال مذكّراته التي نشرتها ابنته، مسوّغاً بذلك تقنية البوح التي اعتمدها كخيار سردي امتدّ على كلّ صفحات الكتاب. وبذلك، فتح يبرير، من خلال ماضي بطله، نافدةً لتسريب أزمة الإرهاب، كما أتاح له هذا الخيار التخلّي عن وحدة الحدث السردي واستبدالها باشتقاق متواصل للحكايات وتشعيبها، رغبةً -على ما يبدو- في رسم بورتريه لجزائر التسعينيات لم تكن لتكفيها حكاية واحدة.

يغادر مصباح، المصوّر الفوتوغرافي، مدينته الواقعة جنوب جبل من الملح، إلى العاصمة التي تقع أيضاً جنوب ملح آخر، هو ملح البحر، في اشتغال رمزي على الجنوب ذي الحمولة السيميائية الـمُثقلة.

الجنوب، هنا، جهة لا غواية لها ولا تعد بشيء، نتخلّى عنها دائماً في سبيل الشمال. هكذا، وجد مصباح نفسه تائهاً في الجزائر العاصمة؛ بين قبوه الرطب وتخلّيه عن دراسة الفنون الجميلة، وبحثه عن عمل، ونوستالجيا مزمنة تشدّه إلى مدينته الجلفة.

حاول يبرير القبض على جزائر التسعينيات التي كانت حبلى بكثير من الجنون والتناقضات، فلجأ مثلاً إلى المزاوجة بين العامية والفصحى في الحوارات، مثلما عبث بالزمن السردي، من خلال خلق زمن غير تقليدي سمح له بالانتقال بحرية بين الماضي الطاغي والحاضر والمستقبل. كما تجنّب الصور النمطية في تعامله مع يسارية والده وخاله قويدر وجهيدة التي صنعت وعيه بالجسد والصورة، وتجاهله للإيديولوجيا الإسلامية.

مصباح، كما تخبرنا الرواية، "ابن اللاجهة والشبيه بالصحراء"، التي تكتمل صورياً عند فقدانه بصره نتيجة ورم في دماغه. "ينطفئ" مصباح، إذن، لتكتمل بذلك حكاية الضياع والتيه، وينغلق الزمن السردي للرواية في علاقته مع ابنته الوليدة التي قرّرت، لاحقاً، نشر كرّاسة ضياع جنوبي آخر.


اقرأ أيضاً: علاوة حاجي: رواية أخرى للعبث الجزائري

المساهمون