"ثورة مصر".. الوعي والمغزى

01 يوليو 2016
+ الخط -
لا يسعنا، في هذه الحلقة الختامية في قراءة كتاب الدكتور عزمي بشارة "ثورة مصر"، بعد أن تتبعنا معركة الذاكرة ومعركة المعنى، إلا أن نتفحص معاني الوعي ومغازي المستقبل. الحديث عن الوعي والمغزى يكمل هذا المثلث في قراءة هذا السِفر المهم حول ثورة مصر، ثورة يناير الجليلة، لنختتم هذه السلسلة، وليست، بأي حال، ختاماً في قراءة هذا الكتاب المهم الذي يستحق قراءة مفصلة ومتأنية، أَعِدُ بها في دراسة مفصلة لهذا الكتاب المهم، أتجه فيها لا إلى عموم القراء، ولكن إلى الباحثين والدارسين. إنه كتاب يستحق أن نُقَلِبَ فيه، لنستخرج كل المعاني والدروس التي يحملها كتابٌ جليلٌ لحدث كبير لمؤلف عميق. يعتبر هذا الكتاب حلقةً غاية في الأهمية في متوالية وعيٍ بالثورة المصرية، هذا أوانها، وهذا قدرها، ليشكل حالة وعي حقيقية، بدراسة هذا الحدث تشريحاً وتفصيلاً، ليكون مفتتحا لسلسلة وعيٍ مستأنفٍ تكتب فيها الدراسات تلو الدراسات عن تلك الثورة العظيمة.
الوعي بالكتابة والكتاب، بالحدث والتاريخ، بالمغزى والمستقبل، يجعل، على حدّ تعبير المؤلف، "عدسة الباحث تتسع وتصبح مهتمةً أكثر بالتفصيلات الصغيرة، كلما اقتربنا من ثورة يناير، لتدخل في التفصيلات اليومية ذاتها، حين يكتب عن الثورة، ذلك أن الكتابة في هذا الموضوع تأريخية راهنة، وتحليلية في الوقت ذاته، واعية لنفسها كعملية أرشفة وإنتاج مصدر مرجعي عن ثورة يناير ذاتها". الوعي بالتاريخ والتأريخ وعملية التوثيق والأرشفة وأهميتها في ذلك الحدث، إنما تعبّر عن طاقة وعي مهمةٍ، وعن اطلاع حقيقي بمهمةٍ آن وقتها، وحان زمانها، تفتح أعين الوعي على أيام الثورة ووقائعها، ترصدها وتقترب من معينها، تُبرِزُ شخوصها، تجمع شهادات ثورةٍ من أفواه أبنائها، وتجعل الحدث يجري أمام أعين الناس، كأنه يكابده ويعايشه ويشهده ويشاهده، يفعل ذلك كله، وهو يعي أن التوثيق هو لب الثورة وعقلها الواعي الذي يتعرّف على أيامها، ويصقل ذاكرتها.
لم يكن هذا الوعي لهذا العمل فحسب لإنتاج مصدر مرجعي عن ثورة يناير، لكنه كان يعني، ضمن ما يعني، حالة الوعي الكامل بما آلت إليه الثورة من تمكّن الثورة المضادّة، والتي يمكن أن تنتج أسوأ سرديةٍ، وأقبح رواية، عن ثورة يناير، فهذا يدعوها بـ"ثورة خساير" وآخر
يَصِمها بكونها "مؤامرة"، بل إن بعضاً ممن شاركوا في هذه الثورة صار، بشكل أو بآخر، يتملّص منها، حينما صارت هذه الثورة المُخلِصةَ والمُخلِّصة عبئاً على تلوّنات بعضهم ونفاقهم لسلطة الاستبداد في عهد الانقلاب. إن استشعار الوعي بالمسؤولية في الكتابة عن الثورة المصرية دفع عالماً كفاحياً من وزن عزمي بشارة يستشعر الحاجة والضرورة إلى مثل هذا العمل، بصورةٍ أكثر إلحاحاً، مستشعراً فداحة الأمر إنْ صمت الجميع في تسجيل وقائع هذه الثورة الناصعة، إذ يؤكد "..في ضوء مصائر ثورة يناير ومنظميها الشباب،.. ربما يخطر في بال أصحاب أهواء ومصالح تجاهل هذا الفصل المشرق من تاريخ الشعب المصري والأمة العربية مستقبلاً، أو تشويهه أو تجاهل صانعيه الذين اقتحموا سماء صناعة التاريخ، حين أخرجت الثورة ضد الاستبداد، ومن أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، أفضل ما في هذه الأمة".
حينما يأتي التوثيق، ليشكل حالة وعي بالحدث الذي يمثل أمل الأمة ومستقبلها، فإن الأمر يشكل بحق مسؤولية وعي مضاعفةٍ تعض بالنواجذ على أحداث الأمة المشرقة، وتبرز في المقدمة أفضل أبناء هذه الأمة شهوداً وشهادة. إنه بحق وعي المغزى الذي يتعلق بالثورة المصرية، حينما يتعامل هؤلاء مع حدثٍ يجب أن يحفظ ويحافظ عليه، يحميه من يقدر على حمايته ويوثّقه من يقدر على توثيقه، ذلك أن مآلات الثورات العربية، ومنها الثورة المصرية وإحباطات تلوح في الأفق هنا وهناك، لا بد وأن تولّد روايةً وسرديةً حقيقية للثورة المصرية، تكون بحق منصة انطلاقٍ لأملٍ جديد في ثورة مستأنفة، وإحياء ثوري.
يكمن المغزى الحقيقي في رواية الأمل وصناعة مستقبلٍ جديد يحمله جيل جديد، حمل هذه الثورة في وجدانه وعقله، ليعبّر عن طاقة الأمل الدافعة لبناء المستقبل. ومن ثم، فإن المجلد الأول، وقد توقف عند مشهد تنحي حسني مبارك في 11 فبراير/شباط 2011، يقول الكاتب مستشعراً مآل ثورة عظيمة "ولو توقف عند تلك النهاية رجل هبط لتوّه على الأرض من الفضاء، لحسب أنه عثر أخيراً على نهاية سعيدة. إذ لو أمعن النظر في نص الجزء الأول لوجد في وقع الثورة الموصوف فيه باحتمالات لنهاياتٍ عدة، ولَعَثر على مبرراتٍ للأمل، وأخرى لا تقل وجاهةً، تحذّر من انتكاسةٍ وإخفاق. والحقيقة أن قصة الثورة المصرية هي قصة أملٍ كبير، انتهى إلى مأساة، وحلم أجيال استحال كابوساً. وكان المؤلف قد تعرّض شخصياً لبعض مشاهد الكابوس، فعند كتابة هذا الجزء من هذا الكتاب (الجزء الثاني) كان كُثرٌ من شباب الثورة من خيرة شباب مصر والأمة العربية ممن قابلناهم، حين إعداد الجزء الأول منه، قد زُجَّ بهم في غياهب السجون، أو فرّقتهم المنافي".
استحق الجزء الثاني أن يكون كتاباً لتعلم الدروس من مرحلة الانتقال، إذ خرج في مصر ثوار طالبوا بالديمقراطية، وأيّدتهم أغلبية صامتة، أو تعاطفت معهم. دروسٌ كثيرةٌ وقف عليها المؤلف بدقةٍ كبيرة، سواء تعلق الأمر بالانتقال الثوري، أو التحوّل الديمقراطي والبحث في تعسّر الانتقال إلى الديمقراطية، لتكون أول صفحاتٍ تؤرخ لحال الانتقال في الثورة المصرية، ويُفتح بهذا الكتاب باب يجب أن يدلف منه آخرون، للتأليف في مراحل الانتقال ومتطلباتها وشروطها، ومآزقها ومظاهر عسرها وتعثرها، ودروس الانتقال التي يجب الوقوف عندها بالفحص والبحث والدرس، ليراكم وعياً جديداً نحتاجه في صفحات مستأنفة، لانتقال سويٍّ ورصين في حال إحياء ثوري جديد.
سيظل هذا المُؤلَف جزءاً من عملية وعي المغزى ومغزى الوعي في الثورة المصرية. وأؤكد، كقارئ لهذا الكتاب، أنه كما أطلعني على عيوب الحالة الثورية في الثورة المصرية، فإنه كذلك يأخذ بيد أهل الثورة وشبابها الذي شارك فيها، أو التحق بها، ممن كانوا أطفالا وقتها، يأخذ بيد هؤلاء جميعاً إلى دروب الإحياء الثوري، واستشراف أمل وصناعة مستقبل. يولد هذا وذاك بين وعي المغزى ومغزى الوعي في ثورة مصر.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".