08 سبتمبر 2019
"تيران" و"صنافير" بين القانون والسياسة
أعلن نظام عبد الفتاح السيسي في التاسع من إبريل/ نيسان الماضي عن اتفاقية ترسيم حدود مع السعودية، يتم بموجبها نقل جزيرتي تيران وصنافير إلى السيادة السعودية، بعد أن كانتا تحت السيادة المصرية، منذ كانت مصر ولاية عثمانية، ومنذ ترسيم الحدود مع الدولة العثمانية عام 1906 على الأقل. ومنذ ذلك الإعلان والمحاكم المصرية تتداول هذا القرار، وتناقش مصرية الجزيرتين، ومدى تلاؤم القرار مع الدستور. لا يناقش هذا المقال أحقية مصر القانونية أو التاريخية بالسيادة على الجزيرتين (وقد فصّلت محكمة القضاء الإداري بعض شواهد ذلك). ولا تخفى على أحد الأهمية الاستراتيجية للجزيرتين، وأثرها على حرية الملاحة البحرية في خليج العقبة والبحر الأحمر، فقد احتلت إسرائيل جزيرة تيران مرتين في 1956 و1967. ولن يناقش المقال ما إذا كان هذا القرار مكافأة للسعودية على دعمها السيسي، وتمويلها نظامه لتحسين الظروف الاقتصادية والاستقرار منذ الانقلاب، بعد أن موّلت العداء لجماعة لإخوان المسلمين قبله. وكان السيسي قد صرّح إنّ ترسيم الحدود سيكون فرصةً للتنقيب عن النفط.
ما يتم التركيز عليه، هنا، هو العلاقة بين القانون والسياسة، كما تجلّت في المداولات القضائية في هذه القضية. فحتى لحظة كتابة هذه السطور، أصدرت محكمتان مصريتان مختلفتان قرارين متضاربين، فقد حكمت الدائرة الأولى في محكمة القضاء الإداري (القضية رقم 43709 ورقم 43866 لسنة قضائية رقم 70، بتاريخ 21 يونيو/ حزيران 2016) أن الاتفاقية مخالفة للدستور المصري، ولذا فهي باطلة، ذلك أن الدستور المصري الحالي (كتبته لجنة الخمسين التي عيّنها نظام السيسي) يحظر على الحكومة المصرية إبرام معاهداتٍ أو اتفاقياتٍ تخالف الدستور "أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة" (المادة 151). ويبدو أن اللجنة كانت قد أضافت العبارة الأخيرة على خلفية شائعات أطلقها مناوئو نظام محمد مرسي أنّه كان ينوي التخلي عن سيادة مصر على سيناء. أما الرد الحكومي على الادعاء بمخالفة الدستور فكان مثالاً على ما يسميه دارسو علم المنطق "خطأ الدائرية"، أي افتراض ما يجب إثباته، فقد كتبت هيئة قضايا الدولة أنه نظرًا لأن الجزيرتين سعوديتان، فهما ليستا جزءًا من إقليم الدولة أصلاً، ولا يشكّل التنازل عنهما تنازلاً عن جزءٍ من إقليم الدولة. ولذا، وفقاً لهذا المنطق، لا يخالف القرار الحكومي الدستور. وتكمن الدائرية هنا في افتراض سعودية الجزيرتين بداية للمحاججة، على الرغم من أنّ هذا الافتراض نفسه موضع المناقشة القضائية وبحاجة للإثبات.
في تفسير الدستور
والدساتير، كما هو معروف، وثائق تسمو نظرياً على السياسة، وتقيّد يدي الحكومات، بل
الشعب أيضًا، لكنها سرعان ما تصبح جزءًا من الخلافات السياسية. والمادة 151 مثال على التقييد، إذ إنها تنص على أنه "في جميع الأحوال" لا يستطيع، حتى الاستفتاء الشعبي، أن يقرّ إبرام معاهدةٍ يتم فيها التنازل عن جزءٍ من أرض مصر. وبذلك، يكون استخدام هذه المادة الآن لإعاقة قرار السيسي بالنسبة للجزيرتين مثالاً آخر على هلامية الدساتير وحيويتها وإمكانية تقييدها أصحابها، وذلك على الرغم من عدم ديمقراطية صناعة الدستور نفسه، إذ لم ينتج عن مجلس تأسيسي منتخب، وتمّ الاستفتاء عليه في ظروف قمعية. وسبق ذلك أن حاول نظام الإخوان المسلمين تفادي تطبيق المادة الرابعة من دستور 2012 التي تجعل من هيئة كبار العلماء في الأزهر مرجعيةً عليا في تفسير الشريعة، والتي حاول حزب النور السلفي استخدامها، لعرقلة الحصول على قرضٍ من صندوق النقد الدولي، بدعوى مخالفته تحريم الربا.
ولكن إمكانية تفعيل الدستور تتعلق، في نهاية الأمر، بالقضاء المخوّل بتفسيره وتطبيقه، فتطبيق الدستور يستوجب التفسير أولاً، ويتعلق هذا التفسير بتوجهات القضاة الذين قد يصلوا إلى نتائج متباينة، بل متناقضة. لذلك، الصراع في القانون هو ليس فقط على هيمنة تفسيراتٍ معينة، بل أيضا على التراتبية القضائية، أي من هو المخوّل بالتفسير وبالحجية، حيث أمرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة (الدائرة الرابعة) بوقف تنفيذ قرار محكمة القضاء الإداري (الحكم رقم 1863 لسنة 2016 بتاريخ 29 سبتمبر/ أيلول 2016) لعدم اختصاص القضاء الإداري بالنظر في موضوع الدعوى، لأن هذا القرار بتسليم الجزيرتين في نظر المحكمة يقع ضمن "أعمال السيادة". ونظرية أعمال السيادة في القضاء المصري مثل نظريات مشابهة في العالم، تحاول رسم الحد الفاصل بين القانون والسياسة، ما بين التدخل القضائي وصلاحية السلطات التنفيذية والتشريعية. فأعمال السيادة هي القرارات التي لا تمتد إليها الرقابة القضائية، لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بممارسة السلطة السياسية كسلطة حكم، وليست ضمن القرارات الإدارية التي يراقبها القضاء الإداري لضمان عدم مخالفتها القانون أو المبادئ الدستورية. ولا تكون هذه القرارات ضمن الأمور التي يملك فيها القضاء اختصاصًا مهنيًا، ولا هي ملائمة للتداول قضائياً. وبالتالي، تترك لتقدير السلطة السياسية. وقد تجاهلت محكمة الأمور المستعجلة أن المحكمة الإدارية نفت أن قرار السيادة على الجزيرتين من أعمال السيادة، خصوصاً على ضوء مخالفة القرار نصاً دستورياً واضحاً. ويتماشى هذا التوجه القضائي مع التوجه العام للمحاكم المصرية في العقود الأخيرة، بل يتماشى مع توجه محاكم كثيرة في العالم، في تقليص الحصانة للأمور السياسية التي لا يتدخل فيها القضاء.
عن التدخل في القضاء
ومن إشكالية محاولة ترسيم الحدود بين القانون والسياسة أنه لا وجود لمعيار موضوعي أو محايد لرسم هذا الحدّ بشكلٍ يحظى بالإجماع، ولا يكون مدار خلاف، فعلى الرغم من أن
القضاء يصرّ على أنه المخوّل الوحيد بتحديد ما يقع ضمن أعمال السيادة، وما يستوجب التدخل القضائي، إلاّ أن المعيار، في حقيقة الأمر، جوهري لا إجرائي، وقيمي لا محايد، وسياسي لا قانوني مجرّد. أي أن سلطة القاضي التقديرية بتحديد الفاصل بين السياسة والقانون تتطلب من القاضي أخذ اعتباراتٍ وظروف سياسية عديدة بالحسبان، ولا شك في أن هذا سيتأثر بخلفية القاضي نفسه ومواقفه ومعتقداته وآرائه. لذا، لن يجد المتابع لقرارات المحاكم المختلفة عبر السنوات منطقاً متناسقاً أو موحداً في عملية رسم الحد. فمن ناحية، كانت المحكمة الإدارية العليا قد أمرت الحكومة المصرية في عام 2008، بمتابعة قضية ارتكاب إسرائيل جرائم حرب ضد الأسرى المصريين في 1956 و1967، لأن الامتناع السياسي عن الملاحقة يؤثر على حقوق المواطنين. ومن ناحيةٍ أخرى، حكمت المحكمة بعدم اختصاصها بالخوض في جوانب أخرى من العلاقات الدولية، مثل اتفاقية السلام مع إسرائيل، أو بعض الاتفاقيات الدولية (مثل قرار القضاء الإداري في 2015 بصدد الاتفاقية الاقتصادية مع قبرص).
لذا، ليس غريباً أن تتهم محكمة الأمور المستعجلة المحكمة الإدارية بخرق مبدأ "فصل السلطات"، وبالتعدّي على صلاحيات السلطة التنفيذية، فهذا الاتهام جاهز عند معارضي التدخل القضائي في أمرٍ ما، سياسي أو تشريعي، لكن استعمال مبدأ فصل السلطات لا يغني ولا يسمن عن جوع، بل يُعيد إنتاج الخلاف المبدئي نفسه، ذلك أن محكمة الأمور المستعجلة فسّرت الفصل على أنه "عضوي" بين السلطات. في حين أن التفسير الدارج اليوم في العالم أن "الفصل" مجازي، ويستعمل المنظّرون القانونيون عوضاً عنه مصطلح "المراقبة والتوازنات". وإذا كان الفصل العضوي غير متاحٍ عمليا، فإن الفصل الوظيفي غير واضح أيضا لسبب ضبابية الحدّ ما بين القانون والسياسة.
وما يثير الاستغراب أن تدخل محكمة الأمور المستعجلة جاء متزامناً مع توجه الدولة إلى المحكمة الإدارية العليا، والمحكمة الدستورية العليا لمنازعة القرار الإداري. وكانت الدائرة السابعة فحص طعون في المحكمة الإدارية العليا قد لاحظت خللاً في إجراءات منازعة قرار القضاء الإداري. فقد أمرت بتاريخ 27 أغسطس/ آب 2016، بتنحية القضاة رئيس وأعضاء الدائرة الأولى فحص طعون في المحكمة نفسها، لشبهة التحيز لصالح الحكومة. لسببين، أولهما أن هؤلاء القضاة منتدبون من جهاتٍ حكوميةٍ هي خصم في القضية، وثانيهما سرعتهم "غير العادية"، وخلافا للمتبع، وبعبارات عامة، وبشكل جماعي في الرد على الطعن ضد تشكيلة القضاة التي كانت ستنظر في القضية.
عوار حكم قضائي
ويشوب العوار تدخّل محكمة الأمور المستعجلة لعدة أسباب، فما يقتضيه المنطق الإجرائي أن يتم الاستئناف على قرار الحكم ضمن القضاء الإداري، ذلك أن الدستور ينص صراحةً أن
القضاء الإداري "يختص دون غيره بالفصل في المنازعات الإدارية، ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه" (المادة 190). لذا، ليس من الواضح ما التأثير القانوني أو الانعكاس العملي لهذا القرار في محكمة الأمور المستعجلة. إضافة إلى ذلك، قضاء الأمور المستعجلة مختص بالأمور التي يخشى عليها من فوات الأوان. ولذا، تدخّل المحكمة مشروط بتوفر ركني الاستعجال، وبأن المطلوب وقتي لا فصل في أصل الحق. ولذا، فإن "الاستشكال" في العادة هو طلب مستعجل لدرء خطر ضياع حق، أو منع تغيّر حالةٍ ماديةٍ في منازعة بين طرفين قبل البتّ النهائي فيها في القضاء العادي. ولذا فليس من الواضح ما وجه الاستعجال في حالة "تيران" و"صنافير": فإذا كان هناك استعجال، فلا شك في أنه يميل إلى جانب وقف قرار نقل السيادة على الجزيرتين حتى انتهاء الإجراءات القانونية الداخلية بخصوصهما. أما وقف تنفيذ قرار بطلان الاتفاقية (ومعناه نقل السيادة قبل نهاية الإجراءات القضائية) فهو الذي سيؤدي إلى ضياع الحق، لأنه سيكون من الصعب استعادتهما بدون موافقة السعودية، ومن دون توفر الإرادة السياسية. ولذا يصبح أي قرار قضائي مصري داخلي بإعادتهما بلا معنى أو تأثير.
لذا، يحيد تدخل محكمة الأمور المستعجلة عن المنطق القانوني السليم، ويبدو مثالاً آخر لممارسات سابقة مماثلة في عهد حسني مبارك، بمحاولة استخدام المحاكم والإجراءات القانونية ضد محاكم أخرى، للتخلص من قراراتٍ غير مريحة للنظام، ذلك أن قرار القضاء الإداري يأتي على خلفية رأي عام معارض للتخلي عن السيادة على الجزيرتين. كما يبدو مثالاً آخر للاستعمال السياسي للمحاكم. وكان نظام السيسي قد استعمل القضاء المستعجل سابقاً لحظر حركة شباب 6 إبريل ومصادرة أملاكها في إبريل/ نيسان 2014.
من الواضح، إذًا، أنّ المحاولات الإجرائية بالتوجه إلى محكمةٍ ضد أخرى، أو بمحاولة منع القضاء من التدخل أصلاً بادعاء فصل السلطات أو عدم الاختصاص (لأنها من أعمال السيادة)، هي محاولات سياسيةٌ مقابلة لمحاولات القضاء لرسم الحدود بين السياسة والقانون. ولكن، بشكل مريح للسلطة السياسية الحالية، وإنْ كانت هذه المحاولات تبدو متأخرةً بعد التدخل الكثيف للقضاء المصري ضد نظام حكم مرسي، بتشجيعٍ من معارضيه السياسيين. ولا غضاضة في اعتماد معارضي السلطة على المحاكم في هذه الحالة، خصوصاً أن القضاء الإداري كان أكثر حماساً للثورة على نظام مبارك، على الأقل في سنتها الأولى. كما أن الاحتجاج على تعدّي القضاء غير المنتخب على صلاحيات سلطةٍ منتخبة، لا يسري على هذه الحالة، لأن النظام الحالي غير ديمقراطي، على الرغم من "انتخاباته" و"استفتاءاته"، مثله في ذلك مثل نظام مبارك، إلا أن التوجهات القضائية لن تثمر على الأمد البعيد كبديل للسياسة، في ظروف ضعف المعارضة السياسية، وظروف عدم نجاح الثورة المصرية بإصلاح النظام القضائي المصري، فقد انقسم القضاة إبّان حكم مرسي، ثم تمّ التخلص من القضاة الموالين لجماعة الإخوان المسلمين. وما زالت السلطة التنفيذية تعرقل استقلالية القضاء، بما يضمن قدرته على مراقبة السلطة. أما ظاهرة "التوريث القضائي" فقد استمرت، بعد إطاحة مبارك، ما يعني أن تعيين القضاة ما زالت تشوبه الشوائب، إذ إنّ معايير التعيين تحيد، في أحيانٍ كثيرة، عن الكفاءة.
أثبت القضاء المصري، والإداري تحديداً، قدرته، من حين إلى آخر، على معارضة السلطة السياسية، حين تغتصب حقوق الناس، وتفرّط في سيادة الوطن. وهذا دليل على أنه على الرغم من عدم إمكانية الفصل بين القانون والسياسة لتأثيرهما المتبادل، إلا أنهما لا يتطابقان تماما. فالقانون ليس تعبيرًا آليًا لمصالح النخبة الحاكمة. لكن الأبحاث الأكاديمية، في دولٍ عديدة، تشير إلى صعوبة ابتعاد القضاة، خصوصاً في المحاكم العليا عن الرأي العام السائد. لذا إمكانية صمود المحاكم أمام الموقف الحكومي وضغط السلطة منوط، إلى حدّ كبير، باستمرار الاحتجاج الشعبي ضد القرار الحكومي، وكذلك إمكانية معارضة القرار من أطراف سياسية وبيروقراطية داخل النظام.
ما يتم التركيز عليه، هنا، هو العلاقة بين القانون والسياسة، كما تجلّت في المداولات القضائية في هذه القضية. فحتى لحظة كتابة هذه السطور، أصدرت محكمتان مصريتان مختلفتان قرارين متضاربين، فقد حكمت الدائرة الأولى في محكمة القضاء الإداري (القضية رقم 43709 ورقم 43866 لسنة قضائية رقم 70، بتاريخ 21 يونيو/ حزيران 2016) أن الاتفاقية مخالفة للدستور المصري، ولذا فهي باطلة، ذلك أن الدستور المصري الحالي (كتبته لجنة الخمسين التي عيّنها نظام السيسي) يحظر على الحكومة المصرية إبرام معاهداتٍ أو اتفاقياتٍ تخالف الدستور "أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة" (المادة 151). ويبدو أن اللجنة كانت قد أضافت العبارة الأخيرة على خلفية شائعات أطلقها مناوئو نظام محمد مرسي أنّه كان ينوي التخلي عن سيادة مصر على سيناء. أما الرد الحكومي على الادعاء بمخالفة الدستور فكان مثالاً على ما يسميه دارسو علم المنطق "خطأ الدائرية"، أي افتراض ما يجب إثباته، فقد كتبت هيئة قضايا الدولة أنه نظرًا لأن الجزيرتين سعوديتان، فهما ليستا جزءًا من إقليم الدولة أصلاً، ولا يشكّل التنازل عنهما تنازلاً عن جزءٍ من إقليم الدولة. ولذا، وفقاً لهذا المنطق، لا يخالف القرار الحكومي الدستور. وتكمن الدائرية هنا في افتراض سعودية الجزيرتين بداية للمحاججة، على الرغم من أنّ هذا الافتراض نفسه موضع المناقشة القضائية وبحاجة للإثبات.
في تفسير الدستور
والدساتير، كما هو معروف، وثائق تسمو نظرياً على السياسة، وتقيّد يدي الحكومات، بل
ولكن إمكانية تفعيل الدستور تتعلق، في نهاية الأمر، بالقضاء المخوّل بتفسيره وتطبيقه، فتطبيق الدستور يستوجب التفسير أولاً، ويتعلق هذا التفسير بتوجهات القضاة الذين قد يصلوا إلى نتائج متباينة، بل متناقضة. لذلك، الصراع في القانون هو ليس فقط على هيمنة تفسيراتٍ معينة، بل أيضا على التراتبية القضائية، أي من هو المخوّل بالتفسير وبالحجية، حيث أمرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة (الدائرة الرابعة) بوقف تنفيذ قرار محكمة القضاء الإداري (الحكم رقم 1863 لسنة 2016 بتاريخ 29 سبتمبر/ أيلول 2016) لعدم اختصاص القضاء الإداري بالنظر في موضوع الدعوى، لأن هذا القرار بتسليم الجزيرتين في نظر المحكمة يقع ضمن "أعمال السيادة". ونظرية أعمال السيادة في القضاء المصري مثل نظريات مشابهة في العالم، تحاول رسم الحد الفاصل بين القانون والسياسة، ما بين التدخل القضائي وصلاحية السلطات التنفيذية والتشريعية. فأعمال السيادة هي القرارات التي لا تمتد إليها الرقابة القضائية، لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بممارسة السلطة السياسية كسلطة حكم، وليست ضمن القرارات الإدارية التي يراقبها القضاء الإداري لضمان عدم مخالفتها القانون أو المبادئ الدستورية. ولا تكون هذه القرارات ضمن الأمور التي يملك فيها القضاء اختصاصًا مهنيًا، ولا هي ملائمة للتداول قضائياً. وبالتالي، تترك لتقدير السلطة السياسية. وقد تجاهلت محكمة الأمور المستعجلة أن المحكمة الإدارية نفت أن قرار السيادة على الجزيرتين من أعمال السيادة، خصوصاً على ضوء مخالفة القرار نصاً دستورياً واضحاً. ويتماشى هذا التوجه القضائي مع التوجه العام للمحاكم المصرية في العقود الأخيرة، بل يتماشى مع توجه محاكم كثيرة في العالم، في تقليص الحصانة للأمور السياسية التي لا يتدخل فيها القضاء.
عن التدخل في القضاء
ومن إشكالية محاولة ترسيم الحدود بين القانون والسياسة أنه لا وجود لمعيار موضوعي أو محايد لرسم هذا الحدّ بشكلٍ يحظى بالإجماع، ولا يكون مدار خلاف، فعلى الرغم من أن
لذا، ليس غريباً أن تتهم محكمة الأمور المستعجلة المحكمة الإدارية بخرق مبدأ "فصل السلطات"، وبالتعدّي على صلاحيات السلطة التنفيذية، فهذا الاتهام جاهز عند معارضي التدخل القضائي في أمرٍ ما، سياسي أو تشريعي، لكن استعمال مبدأ فصل السلطات لا يغني ولا يسمن عن جوع، بل يُعيد إنتاج الخلاف المبدئي نفسه، ذلك أن محكمة الأمور المستعجلة فسّرت الفصل على أنه "عضوي" بين السلطات. في حين أن التفسير الدارج اليوم في العالم أن "الفصل" مجازي، ويستعمل المنظّرون القانونيون عوضاً عنه مصطلح "المراقبة والتوازنات". وإذا كان الفصل العضوي غير متاحٍ عمليا، فإن الفصل الوظيفي غير واضح أيضا لسبب ضبابية الحدّ ما بين القانون والسياسة.
وما يثير الاستغراب أن تدخل محكمة الأمور المستعجلة جاء متزامناً مع توجه الدولة إلى المحكمة الإدارية العليا، والمحكمة الدستورية العليا لمنازعة القرار الإداري. وكانت الدائرة السابعة فحص طعون في المحكمة الإدارية العليا قد لاحظت خللاً في إجراءات منازعة قرار القضاء الإداري. فقد أمرت بتاريخ 27 أغسطس/ آب 2016، بتنحية القضاة رئيس وأعضاء الدائرة الأولى فحص طعون في المحكمة نفسها، لشبهة التحيز لصالح الحكومة. لسببين، أولهما أن هؤلاء القضاة منتدبون من جهاتٍ حكوميةٍ هي خصم في القضية، وثانيهما سرعتهم "غير العادية"، وخلافا للمتبع، وبعبارات عامة، وبشكل جماعي في الرد على الطعن ضد تشكيلة القضاة التي كانت ستنظر في القضية.
عوار حكم قضائي
ويشوب العوار تدخّل محكمة الأمور المستعجلة لعدة أسباب، فما يقتضيه المنطق الإجرائي أن يتم الاستئناف على قرار الحكم ضمن القضاء الإداري، ذلك أن الدستور ينص صراحةً أن
لذا، يحيد تدخل محكمة الأمور المستعجلة عن المنطق القانوني السليم، ويبدو مثالاً آخر لممارسات سابقة مماثلة في عهد حسني مبارك، بمحاولة استخدام المحاكم والإجراءات القانونية ضد محاكم أخرى، للتخلص من قراراتٍ غير مريحة للنظام، ذلك أن قرار القضاء الإداري يأتي على خلفية رأي عام معارض للتخلي عن السيادة على الجزيرتين. كما يبدو مثالاً آخر للاستعمال السياسي للمحاكم. وكان نظام السيسي قد استعمل القضاء المستعجل سابقاً لحظر حركة شباب 6 إبريل ومصادرة أملاكها في إبريل/ نيسان 2014.
من الواضح، إذًا، أنّ المحاولات الإجرائية بالتوجه إلى محكمةٍ ضد أخرى، أو بمحاولة منع القضاء من التدخل أصلاً بادعاء فصل السلطات أو عدم الاختصاص (لأنها من أعمال السيادة)، هي محاولات سياسيةٌ مقابلة لمحاولات القضاء لرسم الحدود بين السياسة والقانون. ولكن، بشكل مريح للسلطة السياسية الحالية، وإنْ كانت هذه المحاولات تبدو متأخرةً بعد التدخل الكثيف للقضاء المصري ضد نظام حكم مرسي، بتشجيعٍ من معارضيه السياسيين. ولا غضاضة في اعتماد معارضي السلطة على المحاكم في هذه الحالة، خصوصاً أن القضاء الإداري كان أكثر حماساً للثورة على نظام مبارك، على الأقل في سنتها الأولى. كما أن الاحتجاج على تعدّي القضاء غير المنتخب على صلاحيات سلطةٍ منتخبة، لا يسري على هذه الحالة، لأن النظام الحالي غير ديمقراطي، على الرغم من "انتخاباته" و"استفتاءاته"، مثله في ذلك مثل نظام مبارك، إلا أن التوجهات القضائية لن تثمر على الأمد البعيد كبديل للسياسة، في ظروف ضعف المعارضة السياسية، وظروف عدم نجاح الثورة المصرية بإصلاح النظام القضائي المصري، فقد انقسم القضاة إبّان حكم مرسي، ثم تمّ التخلص من القضاة الموالين لجماعة الإخوان المسلمين. وما زالت السلطة التنفيذية تعرقل استقلالية القضاء، بما يضمن قدرته على مراقبة السلطة. أما ظاهرة "التوريث القضائي" فقد استمرت، بعد إطاحة مبارك، ما يعني أن تعيين القضاة ما زالت تشوبه الشوائب، إذ إنّ معايير التعيين تحيد، في أحيانٍ كثيرة، عن الكفاءة.
أثبت القضاء المصري، والإداري تحديداً، قدرته، من حين إلى آخر، على معارضة السلطة السياسية، حين تغتصب حقوق الناس، وتفرّط في سيادة الوطن. وهذا دليل على أنه على الرغم من عدم إمكانية الفصل بين القانون والسياسة لتأثيرهما المتبادل، إلا أنهما لا يتطابقان تماما. فالقانون ليس تعبيرًا آليًا لمصالح النخبة الحاكمة. لكن الأبحاث الأكاديمية، في دولٍ عديدة، تشير إلى صعوبة ابتعاد القضاة، خصوصاً في المحاكم العليا عن الرأي العام السائد. لذا إمكانية صمود المحاكم أمام الموقف الحكومي وضغط السلطة منوط، إلى حدّ كبير، باستمرار الاحتجاج الشعبي ضد القرار الحكومي، وكذلك إمكانية معارضة القرار من أطراف سياسية وبيروقراطية داخل النظام.