08 سبتمبر 2019
درب النيوليبرالية المتوحشة
بكى اللاجئ السوري الذي فقد أخاه في حريق برج غرينفل في ضاحية كينسنغتون في غرب لندن بحرقةٍ في مقابلة مع إذاعة بي بي سي، فقد هربا معًا من جحيم الموت في وطنه المحترق، ليموت أخوه في براثن النيوليبرالية المتوحشة في أوروبا. سكن اللاجئان في عمارةٍ فقيرةٍ ومكتظةٍ تبعد بضع دقائق عن الغنى الفاحش في كينسنغتون وتشيلسي، وهما منطقة انتخابية واحدة. ومرة أخرى، تتضح ليس فقط الفروق الاجتماعية والاقتصادية بين السكان في بلدة واحدة، ولكن أيضا مآل السياسات النيوليبرالية، وما يرافقها من تهميش وعداء النخب الحاكمة للديمقراطية. ولعل النخب العربية ترعوي، وتتعظ من حريق البرج السكاني في لندن، وتغير من سياساتها المعادية للعدالة الاجتماعية، ذلك أن هذه السياسات ستؤدي إلى الكوارث أو ثورات المهمشين المتكرّرة أو كليهما. وليست المظاهرات الحالية في تطاوين في الكامور في تونس، والاحتجاجات المستمرة منذ أشهر في الحسيمة في ريف المغرب، والمظاهرات في بجاية (يناير/ كانون ثاني الماضي) ومظاهرات المعلمين (مارس/آذار الماضي) ضد التقشف في الجزائر، وانعكاسات تعويم الجنيه المصري انصياعا لمتطلبات صندوق النقد الدولي التي ستزيد من ثقل الديون الخارجية على كاهل الدولة المصرية، ليست هذه كلها إلا مؤشراتٍ على أن من يهمل موضوع العدالة الاجتماعية يرتكب خطأ جسيما، ويكشف عن قصر نظر فادح.
من ناحيةٍ، تساهم السياسات النيوليبرالية مساهمةً فعالة في إفقار الفقراء، وإغناء الأغنياء، وزيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية عن طريق سياسات التقشف التي تعني تخلي الدولة عن مسؤوليتها تجاه الطبقات الاجتماعية الضعيفة التي تحتاج إلى التعليم المجاني، ومخصصات البطالة والشيخوخة والرعاية الصحية. هذا التخلي عن المهمشين يعني تحطيم آمالهم في فرص حياةٍ متساويةٍ مع من يولدون بالمصادفة البحتة لعائلاتٍ ميسورة الحال. كما تعني هذه السياسات تخفيضا كبيرا في الضرائب المفروضة على الأغنياء وكبار الشركات والمستثمرين، تحت مسميات تشجيع الاستثمار والسوق الحرة وحرية التجارة وخلق الفرص العاملة. وكل هذه مصطلحاتٌ أيديولوجيةٌ تجافي الحقيقة وتخفيها. ذلك أن الدولة لا تنسحب حقيقةً من التشريعات التي تقوم بصقل وبلورة السوق عن طريق عدد لا يحصى من القوانين واللوائح والسياسات الحكومية. ويشمل ذلك وجود أو انعدام شروط التبادل التجاري (بين الأفراد أو الدول) والاحتكار الاقتصادي وحماية الملكية الخاصة (بما في ذلك عن طريق القانون الجنائي) وتشجيع الاستثمار وقوانين الضرائب وقوانين العمل (بما يشمل تحديد ساعات يوم العمل) وقوانين الحد الأدنى أو الأقصى من الأجور وقوانين الاستيراد والتصدير وحماية البيئة وحماية المستهلكين وحماية المستأجرين، وما إلى ذلك.
وهذا يعني أنه لا وجود لما تسمى "السوق الحرة" أو "التجارة الحرة"، لأن هناك دائماً قوانين، وتدخُّلاً من الدولة. وبالتالي، السوق دائما هي نتاج تخطيط حكومي وتشريعي. تخفيض الضرائب على كبار رؤوس الأموال، مثلا، هو سياسة دولة عن طريق تشريعات ولوائح، وليس دليلا على غياب الدولة. أما بالنسبة لإيجاد فرص عمل، فهذا أيضا كلام مردود، لأنه يتجاهل أن فرص العمل هذه هي فرص لاستغلال أرباب المال والعمل لقوى عمل رخيصة، وغير محمية بقوانين العمل. هذا الاختلال في علاقات القوة بين أرباب العمل والعمال سببٌ إضافيٌّ لزيادة أرباح الرأسماليين. ومرة أخرى، تتضح مسؤولية الدولة، ذلك أن الحكومة والبرلمان (وكذلك القضاء) شريكان في التشريعات التي تقوّي أصحاب المال على حساب نقابات العمال.
كما أن هذه القوى العاملة الرخيصة يتم إنتاجها بتخلي الدولة عن التعليم ومجانيته، حيث تخصخص الدول النيوليبرالية المنشآت والموارد العامة، أي تتحول ملكيتها من أيدي الدولة التي يُفترض أن تعمل للمصلحة العامة، إذ تقودها قيادات منتخبة من الجمهور، إلى أيد خاصة، همّها الربح فقط، أي المصلحة الشخصية لأصحاب رؤوس المال. ومن ضمن ذلك، تقوم الأيديولوجيا النيوليبرالية بتحويل كل شيء إلى سلعةٍ تشترى وتباع، بما في ذلك التعليم. وبالتالي، تخلق عدم مساواة بالفرص للحياة الكريمة. وإذ ترتفع أقساط التعليم العالي، يتم فعليا إقصاء كثيرين من فرص التعليم، لعدم قدرتهم المادية، أو يتم إغراقهم بالديون، عن طريق القروض من البنوك الخاصة التي، وإن كانت تسمح لهم بالتعليم، إلا أنها تستعبدهم فترة طويلة لصالح الربح البنكي عن طريق الفائدة. ومرة أخرى، تتخلى الدولة النيوليبرالية عن مسؤوليتها عن المواطنين، إذا لم تضع التشريعات الملائمة لحماية المواطنين اللاجئين للقروض، فالطالب الذي يلجأ إلى القرض للتعليم، أو مشتري البيت الذي يلجأ إلى قرض الإسكان، لا يملك القوة التفاوضية أمام الدائنين أو البنوك، وإذا لم تلجم الدولة البنوك، وتقلم أظافرها، من منطلق المصلحة العامة لجموع المواطنين، فلا مجير للمواطن المدين الذي يلقي بنفسه مضطرا في براثن العبودية للبنوك، بحثا عن مستوى حياةٍ أفضل.
ذلك كله مرتبط بتهميش الفقراء في عملية صنع القرار، فقد كانت حجة حسني مبارك وأمثاله في تأجيل الديموقراطية الدائم أن التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي سابقان للديموقراطية. ولكن الحقيقة أنهما صنوان لا ينفكّان، فتحت عنوان التنمية والتطور والتحديث قد يترك القانون العامل فريسة سهلة للمشغّل، والمستأجر فريسةً لكبار الملاك، والمدين فريسةً للدائنين، والمرضى وكبار السن والعجزة والمعاقين والعاطلين عن العمل فريسة للعوز والحاجة. ولا قوة حقيقة لكل هؤلاء إذا لم يتحدوا، ويجدوا من يمثل مصالحهم، في حين أن المال يتزاوج والسياسة، حيث يدعم أصحاب رؤوس الأموال (بالتبرعات للأحزاب والمرشحين، وبتسخير وسائل الإعلام التي يملكونها للدعاية الانتخابية المباشرة وغير المباشرة) السياسيين الذين يدينون بدين النيوليبرالية التي تغني الأغنياء، وتطحن الفقراء بلا رحمة. وعندما ينعدم صوت الفقراء وتأثيرهم، ولا يوجد من يمثل مصالحهم في دوائر صنع القرار، تصبح نداءات
استغاثتهم كمن ينادي ولا حياة لمن ينادي، إذ يتضح، مثلا، أن سكان برج غرينفل قد حذّروا، مرارا وتكرارا، من خطر الحريق في المبنى السكني، ثم لم تحدث استجابة. لو أن القانون والبلدية قد اهتما بحماية السكان نظريا وعمليا، مثلا بمنع الشركات من بناء عمارات شاهقة إلى هذه الدرجة لتكدس المئات في صندوق من الكبريت، وعن طريق فرض أنابيب المياه الفورية في كل الطوابق، وأجهزة الإنذار في حالة الدخان في كل الشقق، لكان اللاجئ السوري وعشرات القتلى قد نجوا بحياتهم.
عبّر الملايين من البريطانيين في الانتخابات، أخيرا، عن رفضهم سياسات التقشف، ورفضهم النيوليبرالية المتوحشة بالتصويت لزعيم حزب العمال جيرمي كوربين. أما الأنظمة العربية التي تصر على العودة إلى الدكتاتورية، على الرغم من ثورات الربيع العربي، وتصر على مسرحية مجالس الشعب والأمة والشورى التي لم تعد تنطلي على أحد، وتصر ليس فقط على تزييف إرادة الشعب بالانتخابات، بل أيضا على منع وجود معارضةٍ جديةٍ والتضييق على حرية التعبير، فهي ما زالت سائرة في درب الظلم الاجتماعي. وتجد أنهم جميعا يفتقدون رؤية اقتصادية واجتماعية بعيدة الأمد، بل هم مجموعة من التكنوقراط محدودي الرؤية الذين يطبقون التعليمات النيوليبرالية، كما لو كانت كتابا مقدسا يصلح لكل مكان وزمان، من دون الأخذ بالاعتبار بظروف كل بلد وخصوصياته. ولكن هذا الدرب لن يفضي إلى الاستقرار الذي ما فتئوا يتغنون به. أما المهمشون فلا نصير لهم إلا مواصلة النضال ضد هذه السياسات الغاشمة، ومن أجل الديموقراطية.
من ناحيةٍ، تساهم السياسات النيوليبرالية مساهمةً فعالة في إفقار الفقراء، وإغناء الأغنياء، وزيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية عن طريق سياسات التقشف التي تعني تخلي الدولة عن مسؤوليتها تجاه الطبقات الاجتماعية الضعيفة التي تحتاج إلى التعليم المجاني، ومخصصات البطالة والشيخوخة والرعاية الصحية. هذا التخلي عن المهمشين يعني تحطيم آمالهم في فرص حياةٍ متساويةٍ مع من يولدون بالمصادفة البحتة لعائلاتٍ ميسورة الحال. كما تعني هذه السياسات تخفيضا كبيرا في الضرائب المفروضة على الأغنياء وكبار الشركات والمستثمرين، تحت مسميات تشجيع الاستثمار والسوق الحرة وحرية التجارة وخلق الفرص العاملة. وكل هذه مصطلحاتٌ أيديولوجيةٌ تجافي الحقيقة وتخفيها. ذلك أن الدولة لا تنسحب حقيقةً من التشريعات التي تقوم بصقل وبلورة السوق عن طريق عدد لا يحصى من القوانين واللوائح والسياسات الحكومية. ويشمل ذلك وجود أو انعدام شروط التبادل التجاري (بين الأفراد أو الدول) والاحتكار الاقتصادي وحماية الملكية الخاصة (بما في ذلك عن طريق القانون الجنائي) وتشجيع الاستثمار وقوانين الضرائب وقوانين العمل (بما يشمل تحديد ساعات يوم العمل) وقوانين الحد الأدنى أو الأقصى من الأجور وقوانين الاستيراد والتصدير وحماية البيئة وحماية المستهلكين وحماية المستأجرين، وما إلى ذلك.
وهذا يعني أنه لا وجود لما تسمى "السوق الحرة" أو "التجارة الحرة"، لأن هناك دائماً قوانين، وتدخُّلاً من الدولة. وبالتالي، السوق دائما هي نتاج تخطيط حكومي وتشريعي. تخفيض الضرائب على كبار رؤوس الأموال، مثلا، هو سياسة دولة عن طريق تشريعات ولوائح، وليس دليلا على غياب الدولة. أما بالنسبة لإيجاد فرص عمل، فهذا أيضا كلام مردود، لأنه يتجاهل أن فرص العمل هذه هي فرص لاستغلال أرباب المال والعمل لقوى عمل رخيصة، وغير محمية بقوانين العمل. هذا الاختلال في علاقات القوة بين أرباب العمل والعمال سببٌ إضافيٌّ لزيادة أرباح الرأسماليين. ومرة أخرى، تتضح مسؤولية الدولة، ذلك أن الحكومة والبرلمان (وكذلك القضاء) شريكان في التشريعات التي تقوّي أصحاب المال على حساب نقابات العمال.
كما أن هذه القوى العاملة الرخيصة يتم إنتاجها بتخلي الدولة عن التعليم ومجانيته، حيث تخصخص الدول النيوليبرالية المنشآت والموارد العامة، أي تتحول ملكيتها من أيدي الدولة التي يُفترض أن تعمل للمصلحة العامة، إذ تقودها قيادات منتخبة من الجمهور، إلى أيد خاصة، همّها الربح فقط، أي المصلحة الشخصية لأصحاب رؤوس المال. ومن ضمن ذلك، تقوم الأيديولوجيا النيوليبرالية بتحويل كل شيء إلى سلعةٍ تشترى وتباع، بما في ذلك التعليم. وبالتالي، تخلق عدم مساواة بالفرص للحياة الكريمة. وإذ ترتفع أقساط التعليم العالي، يتم فعليا إقصاء كثيرين من فرص التعليم، لعدم قدرتهم المادية، أو يتم إغراقهم بالديون، عن طريق القروض من البنوك الخاصة التي، وإن كانت تسمح لهم بالتعليم، إلا أنها تستعبدهم فترة طويلة لصالح الربح البنكي عن طريق الفائدة. ومرة أخرى، تتخلى الدولة النيوليبرالية عن مسؤوليتها عن المواطنين، إذا لم تضع التشريعات الملائمة لحماية المواطنين اللاجئين للقروض، فالطالب الذي يلجأ إلى القرض للتعليم، أو مشتري البيت الذي يلجأ إلى قرض الإسكان، لا يملك القوة التفاوضية أمام الدائنين أو البنوك، وإذا لم تلجم الدولة البنوك، وتقلم أظافرها، من منطلق المصلحة العامة لجموع المواطنين، فلا مجير للمواطن المدين الذي يلقي بنفسه مضطرا في براثن العبودية للبنوك، بحثا عن مستوى حياةٍ أفضل.
ذلك كله مرتبط بتهميش الفقراء في عملية صنع القرار، فقد كانت حجة حسني مبارك وأمثاله في تأجيل الديموقراطية الدائم أن التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي سابقان للديموقراطية. ولكن الحقيقة أنهما صنوان لا ينفكّان، فتحت عنوان التنمية والتطور والتحديث قد يترك القانون العامل فريسة سهلة للمشغّل، والمستأجر فريسةً لكبار الملاك، والمدين فريسةً للدائنين، والمرضى وكبار السن والعجزة والمعاقين والعاطلين عن العمل فريسة للعوز والحاجة. ولا قوة حقيقة لكل هؤلاء إذا لم يتحدوا، ويجدوا من يمثل مصالحهم، في حين أن المال يتزاوج والسياسة، حيث يدعم أصحاب رؤوس الأموال (بالتبرعات للأحزاب والمرشحين، وبتسخير وسائل الإعلام التي يملكونها للدعاية الانتخابية المباشرة وغير المباشرة) السياسيين الذين يدينون بدين النيوليبرالية التي تغني الأغنياء، وتطحن الفقراء بلا رحمة. وعندما ينعدم صوت الفقراء وتأثيرهم، ولا يوجد من يمثل مصالحهم في دوائر صنع القرار، تصبح نداءات
عبّر الملايين من البريطانيين في الانتخابات، أخيرا، عن رفضهم سياسات التقشف، ورفضهم النيوليبرالية المتوحشة بالتصويت لزعيم حزب العمال جيرمي كوربين. أما الأنظمة العربية التي تصر على العودة إلى الدكتاتورية، على الرغم من ثورات الربيع العربي، وتصر على مسرحية مجالس الشعب والأمة والشورى التي لم تعد تنطلي على أحد، وتصر ليس فقط على تزييف إرادة الشعب بالانتخابات، بل أيضا على منع وجود معارضةٍ جديةٍ والتضييق على حرية التعبير، فهي ما زالت سائرة في درب الظلم الاجتماعي. وتجد أنهم جميعا يفتقدون رؤية اقتصادية واجتماعية بعيدة الأمد، بل هم مجموعة من التكنوقراط محدودي الرؤية الذين يطبقون التعليمات النيوليبرالية، كما لو كانت كتابا مقدسا يصلح لكل مكان وزمان، من دون الأخذ بالاعتبار بظروف كل بلد وخصوصياته. ولكن هذا الدرب لن يفضي إلى الاستقرار الذي ما فتئوا يتغنون به. أما المهمشون فلا نصير لهم إلا مواصلة النضال ضد هذه السياسات الغاشمة، ومن أجل الديموقراطية.