"تنظيم" دخول السوريين إلى لبنان: ارتجال وطبقيّة

09 يناير 2015
ينذر القرار بكارثة في العلاقات السورية اللبنانية مستقبلاً(حسين بيضون)
+ الخط -

في المنطق يكون علاج السبب أهم من علاج النتائج. في لبنان منطق السلطة السياسيّة والأمنيّة عكس ذلك. فلنعالج النتائج، ولنطمر رأسنا في الرمال أكثر وأكثر. ففي ظلّ غياب خطة جدية لملف اللاجئين السوريين ترتكز على بناء المخيمات، ستبقى حالة الارتجال سائدةً بما ينتج منها من أضرار على المدى البعيد.

"لا يُمكن لأي نازح الدخول إلى لبنان من سورية"، هكذا قال الموظف الرسمي في الأمن العام اللبناني، عندما ردّ على سؤال "العربي الجديد"، حول دخول النازحين. إذاً، هو إقفال غير رسمي للحدود في وجه اللاجئين السوريين، بعكس ما تحاول السلطات اللبنانيّة الإيحاء دوماً بأنه مجرد عمليّة تنظيم لدخول اللاجئين والمواطنين السوريين. وآخر إجراء ما أصدره الأمن العام اللبناني لجهة دخول السوريين إلى لبنان.

فجّر القرار اللبناني العديد من ردات الفعل، مؤيدة ومعارضة. النظرة الدقيقة لهذا القرار وما أحاط به تشير إلى أنه أشبه بردة فعل لبنانيّة، تحمل في طياتها مزيداً من تطبيق السياسات المؤيّدة ضمناً للنظام السوري، الذي كان سفيره في بيروت علي عبد الكريم علي أول المؤيّدين لهذا القرار. في الواقع، توجد الكثير من الوقائع التي يجب ذكرها لفهم هذا القرار بشكلٍ أدق وأعمق.

1 ــ فشلت السلطات اللبنانيّة حتى اليوم في إقرار سياسة رسميّة جديّة للتعاطي مع ملف اللاجئين السوريين. ولا تزال الوزارات المعنية تقوم بعمليّة "استجداء" رسميّة للمساعدات من دون أن تكون مستندة إلى أي خطة واضحة، وباعتراف المعنيين في الحكومة من وزيري الشؤون الاجتماعيّة السابق والحالي، وائل أبو فاعور ورشيد درباس، فإن الخيار الأفضل هو بناء مخيمات لجوء، يعيش فيها اللاجئون. وبحسب عدد من المتابعين لملف اللجوء من الموظفين الرسميين اللبنانيين، فإن أهميّة هذه المخيمات تكمن في كونها تجعل الفرز بين السوريين اللاجئين وغير اللاجئين أكثر من سهل. فكلّ من يُريد أن يُقيم خارج المخيمات، لا تنطبق عليه شروط اللاجئين، وبالتالي عليه الالتزام بما ينص عليه القانون، للحصول على إقامة شرعيّة.

كما أن هذه المخيمات، تضبط عمليّة توزيع المساعدات الدوليّة والمحليّة. فالجميع يشتكي من أن هناك من ينال مساعدات وهو لا يستحقها. وتُوفّر المخيمات، إمكانيّة تأمين تغطيّة صحيّة جيدة وبكلفة أقل، عبر عيادات تموّلها المساعدات الدوليّة. ويُمكن بحسب هؤلاء، توفير الكهرباء للمخيمات عبر مولدات كهرباء كبيرة، وبالتالي لا يشكّل هؤلاء ضغطاً إضافياً على شبكة الكهرباء اللبنانيّة التي تُعاني بالأصل من مشاكل في التوزيع وقلة في الإنتاج. ويُضاف إلى ذلك توفير التعليم للأطفال في المخيمات، وغيرها من الحاجات الأساسيّة وبكلفة أقلّ من التي تُدفع حالياً.

لا تنحصر أهميّة المخيمات في حُسن إدارة المساعدات للاجئين السوريين وتخفيف الضغط عن البنى التحتيّة في لبنان التي تُعاني أساساً من مشكلة حقيقيّة، بل إن المخيمات تُساهم في ضبط الوضع الأمني بشكلٍ أكبر، وهو ما يؤكّده ضباط رفيعو المستوى في قوى الأمن الداخلي اللبناني لـ"العربي الجديد". ويقول هؤلاء إن المخيمات، كانت لتُحصّن عملهم بشكلٍ كبير.

لكن هناك قراراً سياسياً واضحاً في لبنان، بعدم بناء مخيمات اللجوء. وتؤكّد مصادر وزاريّة لبنانيّة، أن موقف "التيار الوطني الحرّ" (يرأسه النائب ميشال عون) الرافض لبناء المخيمات، لا يشكّل السبب الرئيسي لعدم بناء هذه المخيمات. "فالموقف العوني هو غطاء لموقف حزب الله الرافض لهذه المخيمات"، يقول مسؤول في أحد الأحزاب اللبنانية المشاركة في الحكومة.

بينما يُشير أحد الموظفين الكبار إلى أن أحد أهم أسباب رفض "حزب الله" للمخيمات، هو رفضه لوجود تكتلات كبيرة للاجئين السوريين. فبحسب دراسة لوزارة الداخليّة اللبنانيّة، فإن أكبر تجمّع للاجئين السوريين يضم خمسة آلاف لاجئ لا أكثر. ولا تُستثنى التجمعات الموجودة في بلدة عرسال وجردها من هذا الوضع، مع فارق أن التجمعات الموجودة في عرسال قريبة من بعضها البعض. إذاً هناك رفض أمني-مذهبي لبناء مخيمات للاجئين السوريين، كما تؤكّد مصادر لبنانيّة مختلفة. ففي الأردن وتركيا، تتخذ سلطات البلدين إجراءات متعلقة بدخول السوريين، لكنها أوجدت المخيمات التي يُمكن للاجئين الالتجاء إليها.

2 ــ يُمارس الأمن العام اللبناني تدقيقاً حاداً بأوراق السوريين الذين يسعون لمغادرة لبنان. وتقول مصادر في الأمن العام إن نحو 15 مواطناً سورياً يُمنعون من السفر يومياً من مطار بيروت بحجة أن هناك أخطاء في جوازات سفرهم. وتُضيف هذه المصادر أن الأخطاء تتعلّق غالباً بعمليّة تجديد جوازات السفر.

كما أن الكثير من السوريين يُمنعون من السفر في حال كانوا قد خالفوا شروط نظام الإقامة. ويقول مسؤول في أحد الأحزاب المعارضة للنظام السوري، والذي يُتابع قضايا كهذه، إنهم توسطوا مراراً لدى الأمن العام للسماح لهؤلاء بمغادرة لبنان، مع إبلاغ بعدم أحقية دخولهم مجدداً، لكن الأمن العام رفض، وبقي هؤلاء في لبنان (مخالفين شروط الإقامة) أو غادروه خلسةً.

3 ــ يمتنع وزير العمل اللبناني سجعان قزي عن توقيع إجازات العمل الخاصة بالعاملين السوريين. وقد اشتكت الكثير من المؤسسات من هذا الإجراء، لكن قزي مصرّ عليه على الرغم من أنه لا يوجد أي قرار بمنع إجازات العمل عن العمال السوريين. وكما هو معلوم يؤدي هذا الأمر إلى خسارة الخزينة اللبنانيّة بدلات الإجازة والضريبة التي سيدفعها العامل. كما يُجبر السوريين على عبور الحدود ذهاباً وإياباً مرة كلّ ستة أشهر لتجديد إقامتهم.

4 ــ ماذا لو انفجرت معركة دمشق، مع اقتراب قوات المعارضة السورية من دمشق؟ هل سيقفل الأمن العام الحدود بوجه الهاربين من الموت؟

5 ــ أتى قرار الأمن العام ليلة رأس السنة، وذلك في خطوة يُمكن تفسيرها بأنها هدفت للحصول على أدنى حدّ ممكن من الاهتمام. كما جاء هذا القرار بعد أيام على انطلاق الحوار بين "حزب الله" وتيار "المستقبل". وبحسب ما يؤكّد وزير في تيار "المستقبل"، فإن القرار اتُخذ بالتنسيق مع وزير الداخلية نهاد المشنوق (يمثل تيار المستقبل). وبذلك، نكون أمام أولى نتائج هذا الحوار، وهي التخلي الكامل عن اللاجئين السوريين في لبنان، وتركهم لمصيرهم. وقد سبق أن نتج من حوار المشنوق مع مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في "حزب الله" وفيق صفا، تسليم بلدة الطفيل اللبنانية (عند الحدود مع سورية) إلى الجيش السوري و"حزب الله" بغطاء من المشنوق في يونيو/حزيران من العام الماضي.

وبتخلي تيّار "المستقبل" عن اللاجئين السوريين بهذا الشكل، يُترك هؤلاء من دون أي غطاء لبناني. ويشار إلى أن أول من دافع عن قرار الأمن العام هم السفير السوري في لبنان، والمشنوق ودرباس (يمثل تيار المستقبل أيضاً).

وبعد تصرفات تيّار "المستقبل"، أعلن رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" سمير جعجع تأييده للقرار، وهو الذي كان مدافعاً عن اللاجئين السوريين. أما لسان حال النائب وليد جنبلاط فهو: "كيف أكون ملكياً أكثر من الملك"؛ بمعنى أنه لا يُمكن أن يُدافع عن السوريين (وهم سنّة) عندما يتخلى عنهم رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري.

هكذا، يُمكن فهم ماهيّة أن يفرض لبنان تأشيرة الدخول للسوريين، على الرغم من أن هذه التأشيرة لم تُفرَض من قبل بين البلدين. هي خطوة في سياق المزيد من التضييق على السوريين، وفي صالح النظام السوري. والأهم أنها ليست في صالح اللاجئين أو لبنان واقتصاده المنهك. والأهم أنها ليست في صالح الوضع الأمني في لبنان أبداً.

تفاصيل القرار اللبناني

يقول المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم، لوكالة "رويترز"، إن هذا الإجراء ليس بمثابة تأشيرة دخول، علماً أن الأوراق المطلوبة من الأمن العام لا تُشير إلا لكونها تأشيرة، إذ إنها ذاتها التي يطلبها الأمن العام للحصول على تأشيرة للأجانب.

وبعد أن كان السوريون يحصلون على إقامة في لبنان لمدة ستة أشهر على الحدود من دون أي إجراءات إضافية، بات هؤلاء اليوم بحاجة إلى كفيل لبناني بحسب حالتهم. ففي حال كانت الزيارة شخصية، على لبناني كفالة "دخوله، إقامته، سكنه ونشاطه"، وذلك بموجب "تعهّد المسؤولية".

وقد حدّد الأمن العام الإقامة لمن يرغب بالسفر عبر مطار بيروت أو أي من المرافئ، بـ24 و48 ساعة كحدٍ أقصى، مع ضرورة تقديم الأوراق التي تُثبت ذلك.

ولمزيد من التدقيق غير المفهوم، فإن السفر عبر الموانئ يشترط الآتي: "يُسمح بدخول السوريين المسافرين عبر أحد الموانئ اللبنانية بموجب تعهّد بالمسؤولية إجمالي يتقدّم به الوكيل البحري للباخرة الى مركز أمن عام المرفأ (مكان انطلاق الباخرة) قبل 48 ساعة من موعد انطلاق الباخرة، يتعهّد بموجبه بنقل المسافرين من الحدود الى المرفأ ويكون مسؤولاً عنهم طيلة فترة تواجدهم على الأراضي اللبنانية".

أما القادمون للعلاج الطبي، فيحصلون على سمة دخول لـ72 ساعة "قابلة للتجديد مرة واحدة ومماثلة". ما يعني أن على المريض السوري أن يُعالج خلال ستة أيام كحدّ أقصى لا أكثر. ولكن ماذا لو خضع المريض لعمليّة جراحية في القلب؟

وفي ما يخص زيارة العمل، فقد حصرها الأمن العام بالآتي: "ما يثبت صفته كرجل أعمال، مستثمر، نقابي، موظف في القطاع العام السوري، رجل دين... أو تعهّد إجمالي أو إفرادي بالمسؤولية من شركة كبيرة أو متوسطة أو مؤسسة عامة لحضور اجتماع عمل أو للمشاركة في مؤتمر". لا وجود لعمال سوريين في لبنان في قاموس الأمن العام اللبناني!

وفي حالة السوريين الموجودين في لبنان بموجب إقامات، فعليهم الحصول على كفيل شخصي للبقاء في لبنان ودفع مبلغ مئتي دولار أميركي عن كل شخص مقابل إقامة لستة أشهر، أو عليهم المغادرة. وإذا لم يُغادروا يُصبحون مخالفين للقانون.

يختصر قرار الأمن العام واقع الحكومة اللبنانية: الكثير من الارتجال في الملف السوري يُضاف إليه تعميق الهوة بين الشعبين. قرار يكرّس التمييز الطبقي، مع تسهيل دخول الأغنياء السوريين إلى لبنان. أمّا آثاره السلبية فستظهر بعد حين كما ظهرت آثار توقيف الأجهزة الأمنية اللبنانية لضباط الجيش السوري الحرّ إذ انضم عناصرهم إلى تنظيم "الدولة الإسلاميّة" (داعش) في القلمون.

المساهمون