"تركيا الجديدة" تمرّ عبر أتاتورك

02 سبتمبر 2014
أردوغان يدشّن عهداً تركيّاً جديداً (آدم آلتان/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

شهد يوم الثامن والعشرين من أغسطس/ آب الماضي، مجموعة من المراسم الاحتفالية بتنصيب رجب طيب أردوغان الرئيس الثاني عشر في تاريخ الجمهورية التركية. وكانت زيارة الرئيس الجديد وفق التقاليد لضريح مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، هي الحدث الأبرز، ليس للخلاف الفكري الضخم بين الشخصيتين فحسب، أو لأن الزيارة أعقبت الانتقادات الشديدة التي لم يكف أردوغان عن توجيهها للتيار الذي حكم تركيا لعقود باسم أتاتورك، بل لما كتبه أردوغان في الدفتر التذكاري للضريح. فقد كتب أردوغان: "عزيزي أتاتورك... بعد وفاتك، جرى إضعاف الصلة بين الأمة وبين رئاسة الجمهورية. أعتقد بأن فترة ولايتي، التي بدأتها اليوم، ستكون الوسيلة ليتعانق كل من الشعب والرئاسة مرة أخرى". كانت هذه الكلمات مهمة للغاية، إذ إن مشروع تركيا الجديدة، بقيادة حزب المحافظين المتدينين (العدالة والتنمية) الذين عانوا مراراً من الإقصاء الكمالي، أصبح يجد في النموذج الأتاتوركي تأسيساً تاريخياً لمشروعهم، معتبرين، ولأول مرة، الفترة بين عام 1938 وحتى عام 2014 انحرافاً عن مفهوم الرئاسة المثالية.

لم يكن كلام أردوغان الموجّه لأتاتورك نوعاً من التملّق السياسي الذي اعتاد عليه الساسة الأتراك بعد وفاة أتاتورك، فالرجل لم يقدم نفسه مطلقاً وريثاً للكمالية، بل على العكس تماماً، فلطالما كان الممثل الفعلي والأكثر شراسة ومقاومة للميراث الكمالي في البلاد. كما لا يمكن اعتبار أتاتورك، كزعيم ومؤسس، المثال الذي يحاول أن يحتذي به أردوغان وهو المعروف بأنه "عثماني الهوى".

الصلة التي أقامها أردوغان مع أتاتورك في الدفتر التذكاري هي نفسها التي بدأ الرئيس الجديد بالحديث عنها منذ بداية المعركة مع ما أطلق عليه "الكيان الموازي"، في إشارة إلى حركة "الخدمة" بقيادة الداعية فتح الله غولن. تلك المعركة التي أطلق عليها وصف "حرب الاستقلال الثانية"، في إشارة إلى حرب الاستقلال الأولى التي قادها أتاتورك بين عامي 1919 و1922 إثر هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بطرد كل من الإيطاليين من ساحل المتوسط في أضنة، والبريطانيين من اسطنبول، والفرنسيين من الجنوب، واليونانيين من الغرب ليجري إعلان الجمهورية بحدودها الحالية.

وجاءت الانتخابات الرئاسية، التي أقيمت في العاشر من أغسطس/ آب الماضي، ليبدأ أردوغان حملته الانتخابية من مدينة سامسون على البحر الأسود، حيث بدأ أتاتورك بـ"لملمة" الجيوش العثمانية أثناء حرب الاستقلال. ومن ثم توجه أردوغان إلى مدينة أرضروم في قلب الأناضول، متّبعاً المسار نفسه الذي سلكه مؤسس الجمهورية. أكثر من ذلك، فقد جاءت الهتافات التي رددتها شبيبة "العدالة والتنمية" أثناء الانتخابات، وخلال المؤتمر غير العادي الذي عقد الأسبوع الماضي، شبيهة تماماً بتلك الشعارات التي كان يرددها الكماليون مثل: "علم واحد والأرض واحدة، وفقط أردوغان"، وصولاً إلى تشبيه أردوغان بالمخلّص، لكن ليس فقط بالنسبة للأمة التركية بل أيضاً لجميع الشعوب المظلومة.

إن هذا الرابط الذي يجري العمل عليه، يحوّل أردوغان من رئيس جمهورية عادي مثله مثل عبد الله غول أو نجدت سيزار أو حتى تورغوت أوزال، إلى زعيم أو رئيس "فوق العادة" كأتاتورك، ما يسهّل عليه العمل والحركة بضمان الصلاحيات التي يمنحه إياها الدستور الجديد نحو "تركيا الجديدة". وليست خافية العلاقة التي كانت تربط أتاتورك بكل من عصمت إينونو (عندما كان رئيساً للحكومة قبل وصوله إلى قصر شنكايا) وجلال بيار أثناء تشكيلهما الحكومة، إذ كان يتعامل مع الحكومة كأداة وإدارة لتنفيذ رؤاه وأهدافه.

بطبيعة الحال، هناك الكثير من الفروقات بين الشخصيتين، فإن كان الأول قد وصل إلى الحكم بقوة السلاح، فإن أردوغان وصل إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع، وإن كان أتاتورك غربي الهوى، فإن أردوغان عثماني محافظ.

لكن وفي الوقت نفسه، هناك الكثير ممّا يمكن الاستفادة منه، فـ"تركيا الجديدة" تشكّل الآن، في الوعي التركي، ما شكّله مشروع الجمهورية بعد الحرب العالمية الأولى، أي ضرورة لا بد منها للحفاظ على الأمة. وبذلك، لا تكتسب "تركيا الجديدة" شرعيتها من الصناديق فحسب، لكن يجري التأسيس لها عبر التاريخ، ما يمنح المشروع قدسية، ليعود بالإمكان تجاوزها ربما في ما بعد.

المساهمون