"تحت الظل": الرمزية والفلسفة والخوف

14 فبراير 2017
(مشهد من فيلم: تحت الظلّ)
+ الخط -

من المعتاد في السينما، أن الرؤية الفنيّة والجمالية لا تأتي مع المتعة الجماهيرية التي تخلقها في العادة أفلام شبّاك التذاكر.

إن البحث عن الرمزيات في فيلم رعب هو فعل عبثي بالعادة، فمقابل عدّة أفلام رعب قائمة تُعدُّ على أصابع اليد، آلاف أخرى من أفلام الرعب التجارية. لكن، أليس الرعب نفسه فلسفة عميقة؟

عندما يثور شعب ما على نظام مستبد لنيل الحريّة، يجد نفسه خلف قضبان السلطة الدينية الدكتاتورية بأمر من الولي الفقيه مجددًا، وقبل أن يخرج من الصدمة يجد نفسه في حرب تقول عنها شيدا (الممثلة نرجس رشيدي) في فيلم "تحت الظل": "لا أظنّها ستنتهي".

شيدا، أمٌ تحاول إقناع عميد كلية الطب بالعودة إلى كليّتها من دون جدوى، بسبب نشاطات سياسية يسارية تسبّبت في فصلها من الكلية. الزمان: الحرب العراقية الإيرانية. وهنا، يُمكن رؤية الرعب الواقعي قبل الرعب القصصي نفسه، مع أوّل مشهد لصافرة الإنذار.

وظّف المخرج باباك أنفاري الممثّلة الشابّة نرجس رشيدي في دور شيدا ببراعة، فوجهها خليط انطباعات صامت وعجيب؛ بلا كلمات كان يتوسّل تارة، ويغضب تارة، ويشكّ تارة، ويضعف حدّ الانكسار تارة أخرى، الوجه الذي استطاع أن يجعل النص المستحيل لهذا الفيلم ممكنًا، وأخرجه لنا بهذه الروعة.

الطفلة الصغيرة دورسا (آفين منشدي)، هي عنصر الرعب التقليدي في الفيلم، ببراعة كبيرة تدخل حالة "المسّ" تدريجيًا، من كوابيس تترك على وجهها شحوبًا بسيطًا، إلى تغيّر كامل في نبرة الصوت والسلوك من دون الحاجة إلى إضافات مونتاجية أو مكياجية لإقناع المشاهد بالـ"مسّ"، أو القوّة الخارجية التي تسيطر عليها.

"الجنيّة" لم تكن تقليدية كذلك، كانت كيانًا مظلمًا يرتدي الزيّ الإسلامي الذي لا ترتديه شيدا، يُلاحق دورسا عن طريق لعبتها (أهي صورة نمطية أم رمز للطفولة؟)، وعن خصلة من شعر شيدا "السافرة" بلقطة عابرة في آخر الفيلم وكتابها.

الرمزية تتّسع على شكل نبضات يغذينا فيها المخرج، وكأنّه يُقطّع رسالته ويضعها في فمنا المتيبّس خوفًا طوال الفيلم على شكل دفعات.

تستخدم شيدا شريطًا لاصقًا في الفيلم لثلاثة أغراض، يبدو أحدها معقولا ومنطقيا، لكنّ الغرضين الآخرين فلا؛ في بداية الفيلم تطلب شيدا من زوجها أن يعيد وضع الشريط اللاصق على النوافذ حتى لا تحطّمها الانفجارات، لكنها تستخدم الشريط ذاته مرّة أخرى لإلصاق صدوع السقف الذي أحدثها الصاروخ الساقط على عمارتها، بعد أن شاهدت العجوز الذي مات إثر الانفجار (أو لأسباب أخرى كما تدّعي عائلته)، يتسلّق إلى الطابق العلوي عبرها، ثم تستخدم الشريط اللاصق مرّة أخرى في إلصاق رأس وأطراف اللعبة كيميا.

الجدير بالملاحظة، أن الشريط فشل في حماية النافذة من الانفجار، وفشل في حماية رأس الدمية كيميا، وعلقته الجنية على شكل ضفيرة في السقف، بطريقة هزلية تشير إلى وهن الشريط وهشاشته.

جارة شيدا الأرستقراطية، تجد في الصواريخ العراقية على طهران حجّة للهروب من إيران، تسأل شيدا الجارة عن كتاب "سكّان الهواء"، فتسأل الجارة شيدا عن فحوى الكتاب الذي تودّ استعارته، تجيبها شيدا: الجن. فتعلّق الجارة بوجه متجهّم "إنه حول الإيمان الخرافي بالجن في الجنوب"، ثم تضيف: "إنه كتاب يتحدّث عن الإنسان، لن تجدي فيه أجوبة".

وهنا يتساءل المشاهد، كيف يرسل المخرج إشارات واضحة تدين المعتقدات "الجنوبية" لسكان إيران من قبل الطبقة الأرستقراطية، بينما يؤكّد هذه المعتقدات بجعلها موجودة وحقيقية داخل الفيلم؟

في مشهد آخر، يصوّر التلفاز الذي يعرض مشاهد تظاهرة مؤيّدة للحرب، ينادي فيها المتظاهرون "هيهات منّا الذلّة"، تنشغل شيدا بالبحث عن الدمية كيميا التي اختفت من خزانة الألعاب، يتزامن اختفاء الدمية مع اختفاء كاسيت التمارين الرياضية، ثم العثور على الدمية مقطوعة الرأس في درج شيدا، والكاسيت مخربًا في سلة المهملات.

تقول دورسا لأمّها شيدا إن الجنيّة تخبرها بأن أمّك لا تستطيع العناية بك، وأنها لا تحبّك، نعم هي نفس الجنيّة التي ترتدي الثياب الإسلامية.

وهنا يجيب المخرج بعبقرية على تساؤلاتنا حول تناقض رفض المعتقدات الخرافية مع وجودها، هذه الجنية هي مجاز يعبر عن النظام الإسلامي المستبد بلا شك، فهي التي تسلب كاسيت الفيديو الذي تمنعه السلطة من "السافرة" شيدا وترميه في سلة المهملات، ويسلب الدمية من الطفلة دورسا ثم يعيدها مقطوعة الرأس لتخريب علاقتها بأمها "الكافرة".

"الجنية" التي عندما فشلت في الإيقاع بين الطفلة وأمها، أسرت الطفلة بالحجاب، قبل أن تمزّقه الأم في مشهد مرعب، فيتحوّل إلى أرضية سوداء فوق الأرضية الأصلية تحاول ابتلاعها، فتنقذها ابنتها في عودة ثانية لعلاقتهما معًا.

لقد نجح أنفاري في إرسال أفكاره كاملة عن طريق فيلم ممتع لكل محبٍّ لأفلام الرعب، وربّما تتجسّد الفكرة كاملة، بعد عودة شيدا من مركز الشرطة، لتصاب بالهلع عند النظر إلى نفسها في المرآة، ورؤية الحجاب الأسود يغطي رأسها، كان المشهد مرعبًا وجماليًا في آن، لم يهمل أنفاري طوال الفيلم جانبا فنيًا واحدًا لا على صعيد الصورة ولا توظيف النص، ترك في النهاية رأس اللعبة وكتاب الطبّ لدى "الجنية" التي ترتدي الزيّ الإسلامي، والتي ستبقى تؤرّق الرمز المدني شيدا إلى الأبد.

المساهمون