يزداد الاهتمام النقدي بطقوس المُشاهدة السينمائية في زمن كورونا اللذين (الزمن والوباء معاً) يفرضان حالياً آلية مختلفة للتواصل مع النتاجات السينمائية، المعلّقة بسبب تفشّي الوباء، أو التي تنتظر البدء مجدّداً بالعمل كي تعثر على طريقها إلى التحقّق.
إغلاق الصالات سببٌ لتنامي النقاش حول مفهوم المُشاهدة وفقاً لمعطياتها السابقة، والمفروضة على العالم منذ مطلع عام 2020. المنصّات حاضرةٌ في المشهد العام منذ أعوامٍ، وتجربة "نتفليكس" موضوعة في دائرة التحليل منذ وقتٍ سابقٍ على الأزمة الصحّية العالمية الجديدة هذه. لـ"العربي الجديد" ملفٌ (الأول من أغسطس/آب 2020) يحثّ على مزيدٍ من النقاش حول علاقة المنصّات بالسينما (والتلفزيون)، إنتاجاً وعروضاً ومُشاهدة.
تجربة "بينوكيو" (2020)، للإيطالي ماتّيو غارّوني، في مجال العرض بين صالة ومنصّة مُثيرة للانتباه. مشاركته في قسم "خاص بالبرليناله"، في الدورة الـ70 (20 فبراير/شباط ـ 1 مارس/آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، لاحقةٌ على عرضٍ تجاري في بلده، إيطاليا، يعرف نجاحاً كبيراً مع إطلاقه بالتزامن مع عيد الميلاد (2019)، إذْ يبلغ عدد مُشاهديه مليونين ونصف المليون شخص، "أي أكثر مما حقّقه (حرب النجوم) وإنتاجات أميركية أخرى"، بحسب غارّوني نفسه، في حواره مع جيل إيسّبورزيتو، منشور في المجلة الفرنسية "ماد موفيز" (مارس/آذار 2020).
يقول غارّوني: "قبل إطلاق عروضه التجارية، نظّمنا عرض ـ تجربة لـ400 صبي وفتاة تراوحت أعمارهم بين 7 و9 أعوام. التجربة ناجحةٌ للغاية. الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 6 أو 7 أعوام ظلّوا متسمّرين في مقاعدهم، لأنّهم يستطيعون المشاركة في مغامرات بينوكيو أثناء اكتشافهم، في الوقت نفسه، صُوَراً لم يعتادوا مُشاهدتها. لديّ مئات الرسائل من صغارٍ مكتوبة إليّ لشكري على تصوير الفيلم. متأكدٌ أنا أنّ الكبار ذهبوا إلى الصالات للتطلّع إلى الوراء، إلى ذكرياتهم المتعلّقة بمرحلة شبابهم". يُضيف: "بالنسبة إليّ، النجاح الكبير كامنٌ في تمكّني من بلوغ جمهور صغير السنّ مع نتاجٍ يخرج على الإنتاجات الأميركية، التي اعتاد هذا الجمهور مشاهدتها".
لكنّ توزيع "بينوكيو" خارج إيطاليا مُعطّل، بسبب تفشّي كورونا. في حوارٍ مع كريستوف ناربونّ، منشور في المجلة الفرنسية "بروميير" (يونيو/حزيران 2020)، يتحدّث جان لابادي، الموزّع الفرنسي للفيلم، عن العرض التجاري المُعطّل، وعن العلاقة بمنصّة "أمازون"، وعن مسائل أخرى تنخرط في آلية المُشاهدة الجديدة المفروضة على المُهتمّين بالسينما في أنحاء العالم. فرَدّاً على سؤال مفاده أنّ عرض "بينوكيو" على "أمازون برايم فيديو" في فرنسا، ونجاح عروضه التجارية في إيطاليا قبل الأزمة الصحّية، "كان لهما تأثير قنبلة"، قال لابادي: "عندما أقفلت إيطاليا كلّ شيء، كان واضحاً لنا أنّ فرنسا ستتبعها. استبقنا الحَجْر بإلغاء برمجة "بينوكيو" سريعاً جداً، ثم أجّلنا موعد إطلاق عروضه إلى الأول من يوليو/تموز. حينها، صرفنا 700 ألف يورو على الإعلان الترويجيّ للفيلم، الذي ظلّ يتنزّه في أرجاء باريس، بفضل الباصات كلّها، الموضوعة في الخدمة التي تحمل ملصقاته".
يُضيف الموزّع: "إذا أُقيم احتفال (عيد السينما) في يونيو/حزيران (أُجري الحوار بداية مايو/أيار الماضي)، يمكننا حينها أن نُعيد إطلاق الفيلم من دون مصاريف إضافية أو زائدة". يقول لابادي أيضاً إنّ غياب رؤية واضحة بخصوص موعد إعادة فتح الصالات، ثم "البيع المفاجئ" للفيلم الكوميدي Forte 2020 لكاتيا ليفكوفيكس، لمنصّة "أمازون"، لهما "تأثير كبير على قرارنا".
لكن، ما الذي يمنع إطلاق "بينوكيو" في الخريف (جان لابادي مُشارك في إنتاجه، عبر شركته Le Pacte)؟ يقول: "إنّ إطلاق الفيلم في أكتوبر/تشرين الأول ـ نوفمبر/تشرين الثاني 2020 مثلاً، يفرض علينا دفع المبلغ نفسه تقريباً للإعلان الترويجيّ. هذا غير قابل لـ"اللعب" اقتصادياً. بالإضافة إلى أنّ شركتي ملتزمة، في العام المقبل، بـ8 ملايين يورو، حدّاً أدنى، كضمانة (ما يُعادل المبلغ الوفير لأفلامٍ توزّعها الشركة). حينها، ستواجه Le Pacte، كشركاتٍ أخرى، مشاكل متعلّقة بالسيولة المالية". لهذا، "عندما تواصلت "أمازون" معنا، مُقترحةً علينا تغطية استثمارنا في "بينوكيو" (الجزء الخاص بنا من الإنتاج المشترك، ومصاريف المشاركة في الترويج)، لم نماطل كثيراً".
وعمّا إذا كانت هناك مفاوضات مع منصّات أخرى، نفى جان لابادي هذا الأمر، مُشيراً في الوقت نفسه إلى معرفته بـ"أمازون" بشكلٍ جيّد، علماً أنها شاركته في إنتاج Paterson عام 2016 لجيم جارموش: "خطّها التحريري يتلاءم مع "بينوكيو" غارّوني". وهل هناك احتمال بيع أفلام أخرى لمنصّات أخرى، أجاب لابادي: "على الأرجح كلا، إلاّ إذا لم تتعاف السوق بسبب عودة الأزمة الصحية مثلاً".
وهل هذه الأزمة "ستُغيّر" العادات؟ وأيّ عادات ستُغيّرها إنْ يكن الجواب إيجابياً؟ قال لابادي: "على الصالة أنْ تبقى في الأولوية. إضعافها يعني إضعاف التنوّع. نرى جيداً أنّ (أمازون) و(نتفليكس) مثلاً تستفيدان، عندما توزّع/ تعرض تلك الأفلام، من سُمْعتها، المكتسبة في الصالات أو من هالة السينمائيين الكبار، المنكشفة في السينما. مع مراعاة احترام التنوّع وتحديد الاستثمار، على المنصّات أنْ تندمج في التسلسل الزمني لوسائل الإعلام، لتحرير موارد جديدة. لم تعد "كانال بلوس" وقنوات أرضية أخرى قادرة على جعل الصالات تمتلئ كلّها بالمُشاهدين".