"بيان شعر 69": أربعة شعراء يتّجهون شرقاً

21 ديسمبر 2019
(فوزي كريم)
+ الخط -

ربما كان البيان الشعري الذي عُرف بـ "بيان شعر 69" نسبةً إلى المجلّة الشهرية التي تَصدّرَ صفحاتِ أول عدد من أعدادها قبل نصف قرن في بغداد (أيار/ مايو 1969)، أوّلَ بيان شعري عربي يتّجه شرقاً، مستوحياً بوضوح أقدم نصوص الفكر الشرقي ممثّلاً في "الأوبانيشاد" الهندية (كتاب الفيدا الرابع)، إذ لم يحدث أن اتّخذ أيُّ بيان شعري أصدره الشعراء العرب، أو مقدّمة من مقدّمات مجموعات شعرية عرّفوا فيها بأنفسهم واعتُبرت بياناتٍ، اتجاهاً من هذا النوع منذ انطلاق حركة تحديث الشعر العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصولاً إلى آخر بيان صدر بتوقيع ثلاثة شعراء في الأردن على أساس أنه البيان الأوّل لـ "حركة شعراء نيسان" في عام 2017.

صدر "بيان شعر 69" بتوقيع أربعة شعراء هم العراقيّون الثلاثة، سامي مهدي (1940) وفاضل العزاوي (1940) وفوزي كريم (1945 - 2019)، والشاعر الفلسطيني خالد علي مصطفى (1939 - 2019) الذي أقام في العراق منذ تشرّده مع من تشرّد من فلسطينيّي جبل الكرمل ولجوئه مع أسرته إلى العراق.

ومع أن المجلّة، التي صدرت لتُعنى "بالشعر العربي الجديد والتجارب العالمية في الشعر والفكر والثقافة"، لم تلبث أن توقّفت بعد صدور ثلاثة أعداد منها، ولم تترك سوى اسمها الذي ما زال ملتصقاً بالبيان حتى الآن، إلّا أن أصداء البيان لم تتوقّف عن التردُّد منذ نشره، سواء على صفحات الصحف أو الندوات الثقافية (ألقيت في حزيران الماضي من العام الجاري محاضرة عن شعراء البيان في محافظة بابل العراقية ضمن برنامج ثقافي لاتحاد الأدباء هناك)، وأعاد الشاعر خالد علي مصطفى نشره في كتابه "شعراء البيان الشعري: سامي - فاضل- فوزي" عام 2015.

إذاً هو من البيانات الراسخة في الذاكرة، ولكن ما كُتب وقيل عنه حتى الآن لم يلمس جوهر ما طرحه أصحاب البيان، مع أنه كان باهراً لا سابق له في الآفاق التي رسمها أمام الشاعر العربي، وفي إضاءة الوعي الشعري بعدد من المراجع المتنوّعة، فلسفية ودينية وأدبية وأسطورية. الأصداء النقدية الأولى ركّزت على علاقته ببيان الحركة السوريالية الأول (أندريه بريتون، 1924) فقط، بسبب تطرُّقه إلى دور الحلم في الإبداع الذي جعله بريتون ركناً أساسياً معتمداً على تحليلات فرويد، ولم تنتبه إلى أنَّ أصحاب البيان أحدثوا تناصّاً بين أفكاره وأفكار حكماء هنود وصينيّين، واستخدموا أسطورة صعود بيدبا السومري إلى السماء، ليماثلوا بين الشاعر وبينه في العلو واتساع الرؤية، بالإضافة إلى تضمين رؤية كتاب "منطق الطير" الذي ترحل فيه الطيور لرؤية "السيمرغ" شرحاً لمعنى سعي الشاعر إلى "الحقيقة"، وتضمين رؤى أخرى أكثرها أهمية رؤية الشاعر العراقي محمود البريكان الداعي إلى انتماء الشاعر إلى الأجيال كلها وحلم البشرية العام.

وانصرف أكثر حديث المنتقدين، كما لاحظ الموقّعون عليه، "إلى فكرة وطريقة إعلانه، وليس إلى البيان نفسه... واختلفت الكتابات في درجة صدقها وإخلاصها مثلما اختلفت في دوافعها وأغراضها" بين مرحّبة وعدوانية. هذا على الصعيد المحلّي، أمّا على الصعيد العربي، فكانت الالتفاتة أكثرَ جدّيةً. فنسب غالي شكري على صفحات الطليعة المصرية البيان إلى ما سمّاه "جيل التحدّي وليس الغضب أو العبث أو الاحتجاج".

ونشرت مجلّة "مواقف" اللبنانية فقرات من البيان، ورأى رئيس تحريرها، أدونيس، في البيان "ظاهرة - مفترق طرق في الشعر العراقي، فهي لا تطمح إلى تجاوز الروح السلفية وقيمها وحسب، وإنما تطمح كذلك إلى تجاوز الاتجاهات الشعرية التي سيطرت على الشعر العراقي في السنوات الخمس عشرة الأخيرة".

واللافت للنظر أن "إذاعة القاهرة" كرّست برنامجاً لمناقشة مجلّة "الشعر 69"، والحديث عن المجلّة والبيان... ووصفَ مقدّم البرنامج، حسب ما نقل تقرير صحفي، المجلّة "بأنها جريئة... والأولى من نوعها التي تصدر في العراق وتُعنى بقضايا الشعر الجديد".

الآن، وبعد كل هذه السنوات، لماذا كان البيان مستفزّاً للوسط الثقافي العراقي آنذاك، ولماذا كانت النظرة إليه ضيّقة إلى درجة أنها حصرته في زاوية وحيدة هي علاقته بالسوريالية؟

كان سبب الاستفزاز أنَّ البيان فتح أفقاً ثقافياً أمام الشاعر غير مألوف، يتجاوز الثقافة السائدة آنذاك، حين ربط الفعالية الشعرية بقضية فلسفية؛ معنى وجود الإنسان في هذا الكون، وبدأ بالقول: "تبدأ القصيدة تعاملاتها مع العالم من خلال افتراض جوهري ذي أهمية خاصة هو أن العالم ناقص، وكذلك الموجودات والأشياء. وما دام كل شيء في حالة حركة مستمرّة نحو الولادة والموت، فإن من المستحيل البحث عن حقيقة ثابتة ضمن الزمان والمكان".

ثم يوغل أكثر في أبعاد لم تكن تخطر ببال شعراء تلك الأيام: "منطقة الشعر صحراء غير مرئية من قبل الآخرين، وعظمة الشاعر تكمن في قدرته على الإيغال داخل هذه الصحراء الممتدّة بين قطبَي الحياة والموت، بين ما هو فانٍ وما هو غير فان. والقصيدة الجيّدة هي التي تحدّق عبر الوجود الفاني إلى حلم الوجود الأخير. إنها ليست تعاملاً مع ما هو وجود يومي أو لحظي من جهة أو وجود نهائي مطلق من جهة أخرى، بقدر ما هي تساؤلات وجودية غير أنانية أمام وهم الانثناء المطلق للعالم".

ولكي يشرح البيان ما يعنيه بهذا الانثناء، ينقل حواراً لا يشير إلى مصدره، ولكننا نجده في كتاب صدر عن "دار اليقظة العربية" في دمشق عام 1967 عنوانه "الفكر الفلسفي الهندي"، من تأليف سرفبالي رادا كريشنا وشارلز مور، وترجمه الباحث والفيلسوف السوري ندرة اليازجي. ويجري هذا الحوار بين الحكيم الهندي ياجينا فالكيا وزوجته في أوبانيشاد بريهارادانيكا:

- من يكون فوق الفضاء وتحت الأرض وبين السماء والأرض - ذلك الذي يسمّيه الناس الماضي والحاضر والمستقبل - علام يرتكز هذا أو يتقوّس وينثني؟

قال: إنه ينثني على الفراغ ويلتحم به.

- وعلام ينثني الفراغ وإلام يستند؟

قال: ذلك ما يسمّيه البراهماني اللافاني... الذي لا داخل له ولا خارج... اللافاني هو الرائي الذي لا يُرى السامع الذي لا يُسمع المفكّر الذي لا يُعقل الفاهم الذي لا يُفهم.

ثم يقول البيان: "هذه الحكمة الهندية تضيء صحراء الشعر الذي يجعل الأزمنة تنثني على الفراغ الذي ينثني بدوره هو الآخر على الغرفة التي لاداخل لها ولا خارج"، ثم يدمج سطوراً أخرى من "الأوبانيشاد ذاتها" في سطوره، ويواصل: "في هذه الغرفة، يقف الشاعر الذي يتحدّث بلغة غامضة غير مفهومة عن الذي يسكن في كل الأشياء، ومع ذلك هو غير تلك الأشياء، عن الذي لا تعرفه كل الأشياء، والذي يكون جسده كل الأشياء".

بهذه المقتطفات وغيرها، تخطّى البيان مطامح الأيام الشعرية السطحية وأغراض الشعراء التي لم تكن تتجاوز استغلال الغرائز بشتى أشكالها، وكان من الطبيعي أن يرى الكثيرون أن البيان الشعري، حتى وإن لم يقل هذا صراحة، كان يكنس في الحقيقة من عالم الشعر أكواماً من الدواوين الشعرية، ويُشعر مئات الشعراء، الكبار منهم قبل الصغار، بأن صلاحيتهم منتهية، ولم تبق بضاعتهم رائجة إلا بسبب الضحالة المعرفية لدى جمهور لم يتعرّف بصورة كافية لا على ثراء موروثه ولا على ما تزخر به ثقافات العالم من حوله من تيارات.

أمّا النظرة الضيقة إلى هذا البيان فيرجع سببها إلى عدم إلمام مثقّفي تلك الأيام وجمهورهم بأي مصدر من مصادره، أي إلى فقر النقاد الثقافي، وكان لهذا الفقر دور كبير في انصرافهم عنه إلى مناقشة الإعلان عنه وطريقة الإعلان، والتسلّي بالحديث عن تأثّر شعرائه بالسوريالية.

ولكن بعد مراجعة بيان السوريالية الأول الذي أشاروا إليه، خاصة وأنّ المجلة نشرت مقتطفات منه في عدد الشهر التالي، نجد أن من التصقوا، وما زالوا يلتصقون حتى اليوم، بمقارنته بالبيان السوريالي فقط لم يطّلعوا حتى على هذا الأخير، اللهم إلّا من نتف وصلت لهم وأحاديث شائعة. ونقول هذا لأن ترجمة مجلّة "الشعر 69" لمقتطفات من البيان السوريالي الذي اعتمده شعراء البيان، كانت ترجمة غير دقيقة، بل وفيها أخطاء فاقعة.

جاء في المجلّة ما ترجمته عن بيان بريتون: "إننا ما زلنا نعيش في مرحلة المنطق، غير أن العمليات المنطقية لزمننا لا ترتبط إلّا بحل مشاكل ذات أهمية ثانوية. إن العقلانية المحضة التي تظل موجودة في النموذج تسمح لنا فقط بالتمعُّن في تلك الحقائق ذات العلاقة الضيّقة بالتجربة، ذلك لأن الاستنتاجات المنطقية من جهة أخرى تمثّل خلاصنا. وما من حاجة للقول إنَّ الحدود مرتبطة حتى بالتجربة. إنها تتفجّر داخل قفص حيث يصبح الإنقاذ باستمرار صعباً".

بينما جاء في الترجمة الإنكليزية للبيان عن الفرنسية ما يلي: "ما زلنا نعيش تحت سطوة المنطق... ولكن المناهج المنطقية الآن في هذا العصر لا تصلح للتطبيق إلّا في حل مشاكل ذات أهمية ثانوية. ولا تسمح لنا النزعة العقلانية المطلقة إلّا بأن نأخذ في اعتبارنا وقائع ذات صلة مباشرة بتجربتنا. وفي مقابل ذلك تفلت منّا الغايات المنطقية. ومن نافل القول إضافة أن التجربة ذاتها تجد نفسه سجينة. إنها تمشي جيئة وذهاباً في قفص وتتزايد صعوبة جعلها تخرج منه أكثر فأكثر".

المساهمون