تصدق مقولة المناضل الفيتنامي فون نجوين جياب بأن "الاستعمار تلميذ غبي"، والتي أوردها في سياق الحديث عن قدرة المقاومة على الابتكار في مواجهة القوة الاستعمارية والتسلّط والشر لتتمكّن في النهاية من التفوق عليها، ما ينسحب على قدرات الشعب الفلسطيني في مقارعة الاحتلال الأكثر إرهاباً وهمجية.
استطاع "مسرح الرواة المقدسي" منذ تأسيسه عام 1987، أن يترجم هذه المعادلة على طريقته من خلال أكثر من خمسة عشر عملاً مسرحياً لم تتعامل مع فكرة العدو بأنها منفصلة عن تناقضات المجتمع الفلسطيني وأزماته الداخلية، بل ذهبت إلى تفكيك الواقع كما هو، ليكون أكثر صدقاً وإقناعاً وتأثيراً، وإدانة للاحتلال في الوقت نفسه.
ولأن الفرقة تعيش وتتنفّس وتحلم داخل القدس المحاصرة والمعزولة والتي يُراد إخراجها بالقسر والإكراه من تاريخ الفلسطيني وحاضره، تنبّه مؤسّسها المخرج والكاتب والممثل إسماعيل الدباغ، إلى أن حيلته تكمن في صعود مدينته وقصص أهلها وذاكرتهم وهمومهم وأفراحهم وآلامهم على الخشبة، فمن خلال حياتهم اليومية الروتينية العادية تقدّم الرواية الفلسطينية التي سعت أطراف كثيرة لتشويهها وحرفها عن مسارها.
عُرضت مسرحيات "الرواة" في أكثر من مدينة عربية وأوروبية طوال أكثر من عشرين سنة مضت، حتى قرّرت أن تتوّجه إلى جمهور أوسع من خلال إنتاجها المسلسل التلفزيوني "باب العامود" الذي قُدّم موسمه الأول عام 2013، واليوم تستعد الفرقة لتقديم الموسم الثالث في رمضان المقبل من عملها الدرامي الذي أنتجته بشكل مستقل رغم شحّ الإمكانات. المسلسل من إخراج الدباغ نفسه والذي يمثّل الدور الأساسي فيه، وكتب حلقات هذا الموسم محمد إبراهيم الأحمد، ووضع موسيقاه التصويرية سمير كويساتي، وأدارت إنتاجه عبير النابلسي.
نجح العمل، خلال الأعوام الستّة الماضية، في إيصال فكرته الأساسية إلى المشاهد الفلسطيني والعربي، ووقَف المشاهد على التحولّات التي مرّت بها القدس منذ الانتفاضة الأولى وتوقيع "أوسلو" الذي أفرز سلطة منزوعة السيادة والإرادة واندلاع "الانتفاضة الثانية" وبناء الجدار العنصري، وصولاً إلى قرار الولايات المتحدة الاعتراف بنقل الاحتلال عاصمتَه إلى المدينة المقدّسة.
ويبرع الدباغ في تقديم القدس بلا شعارات سياسية أو تنظير منقطع عن الحياة والناس، حيث سنلمس كل هذه التغيّرات من خلال عرض سِير المقدسيين وأخبارهم اليومية وعلاقاتهم في ما بينهم وخلافاتهم وكيفية إدارتهم لشؤون حياتهم ومشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية، والمفارقات التي يضحك فيها الفرد من وجعه.
اختار العمل عائلة، مكوّنة من زوج (حسن)، وزوجة (حسنية)، تعيش في حارة السعدية بالقرب من باب العامود في البلدة القديمة، وتبدأ أحداثه بخلاف عائلي كبير بين حسن وابن عمه زهدي الذي يعيش في الأردن وأتى لزيارته ليبيع حصته من الإرث في المنزل والدكان في القدس، فيدبّ الخلاف بين أبناء العم وينتهي في محاكم الاحتلال التي تصدر قراراً بالحجز على المنزل والدكان إلى أن يتم إصدار الحكم.
من خلال قصة واقعية، يكشف المسلسل عن حياة كاملة تحياها المدينة بتفاصيل متعدّدة ومتشابكة تختزلها نشرات الأخبار وتقارير المنظّمات الدولية على نحو مبتسر ومخلّ، خاصة في ما يتعلّق بتهويد القدس الذي يُظهر صراعاً بين شخصيات متمسكة بمبادئها تجاه الحفاظ على ممتلكاتها رغم قسوة الظروف المعيشية، وأخرى يائسة متخبطة وجدانياً تجاه التنازل عن مبادئها وهماً بحياة رغدة وهانئة اقتصادياً.
يعالج العمل قضايا ملحّة وحرجة لدى المواطن المقدسي بتهكّم وسخرية من الواقع سواء في الحوار أو في الحوادث التي يعيشها البطل، ويتقصّد قول الحقائق كما هي من دون تجميل، حيث لا يجد الطلاب مقاعد في المدارس الحكومية مقابل الأقساط الباهظة في المدارس الخاصة، وتواجه البيوت القديمة التاريخية خطر الانهيار ولا خطط لترميمها، وتنتشر الجمعيات التي تتاجر باسم المقدسيين من دون تنفيذ وعودها، إلى جانب البطالة والمخدرات والجريمة.
ينحاز "باب العامود" إلى القدس التي يعرفها أهلها بعيداً عن رطانة الخطابات الوطنية والتمجيد المجاني، حيث كل فعل مقاوم لهم هو حصيلة عرق وكدّ ودمٍ وزمن لا يدرك حساباته غيرهم.