"انقلاب أم تصحيح ثوري؟": أكثر من تضارب مصطلحات

16 أكتوبر 2018
(بومدين وبن بلة، 1962، تصوير: فرنانند باريزوت)
+ الخط -

إلى غاية 1999، كان تاريخ التاسع عشر من حزيران/ يونيو عطلةً رسميةً في الجزائر يُحتفَل فيها كلّ عام بذكرى ما اصطَلحت عليه الأدبيّات السياسية الرسمية "التصحيحَ الثوري"، في إشارةٍ إلى الانقلاب الذي قاده هوّاري بومدين (1932 - 1978) على أحمد بن بلّة (1916 - 2012) في مثل ذلك التاريخ من عام 1965، بمبرّر خروج الأخير عن خطّ الثورة الجزائرية واستئثاره بالسلطة.

مع بداية حكمه قبل قرابة عشرين عاماً، ألغى الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة (1937)، الذي يوصَف بالعقل المدبّر للانقلاب، هذا اليوم من قائمة الأعياد الوطنية، فيما اعتُبر بادرةً لإعادة الاعتبار إلى بن بلّة الذي قضى 14 سنةً في السجن انتهت عام 1979 حين نُقل إلى إقامة جبرية في مسقط رأسه بمحافظة المسيلة، قبل أن يُطلَق سراحه بعفوٍ من الرئيس الشاذلي بن جديد (1929 - 2012) سنة 1980.

أُلغيَ الاحتفال بذكرى ما يعتبره مناصروه تصحيحاً ثورياً ومعارضوه انقلاباً. لكن ذلك لم يحسم الجدل حوله، والذي بدأ مع بداية الاحتفال به سنة 1966. وإلى اليوم: لا يزال السؤال مطروحاً: هل كان ما حدث في التاسع عشر من حزيران/ يونيو 1965 انقلاباً عسكرياً أم تصحيحاً ثورياً؟

هذا السؤال هو عنوان كتاب جماعي شارك فيه عددٌ من الكتّاب والصحافيّين والأكاديميّين ورجال التاريخ والسياسة الجزائريّين والأجانب، وصدر حديثاً عن دار "الوطن اليوم" في الجزائر، مستعرضاً وجهات نظرٍ مختلفة حدّ التناقُض.

يعود مُعدّ العمل، الكاتب والمترجم عبد العزيز بوباكير، إلى حوارٍ أجرته صحيفة "الأهرام" المصرية، مع بومدين بُعيد الانقلاب، حيثُ يردّ فيه على هذا السؤال بالقول: "الانقلاب العسكري هو، في حقيقة الأمر، عمليةٌ عسكرية بحتة تقوم بها جماعة تنتمي إلى جهاز كلاسيكي، مجموعةٌ مغامرة ترمي إلى الاستيلاء على الحكم وخدمة مصالحها الضيّقة. أما نحن، فلسنا جيشاً من المرتزقة. فهل يصح القول إن 19 جوان هو انقلاب يشبه الانقلابات التي تحدث في أميركا اللاتينية مثلاً؟".

غير أن بوباكير يبدو منتصراً لوجهة النظر التي تُوصّف ما حدث بـ "الانقلاب"، على حساب مقولة "التصحيح الثوري" التي ينسبها إلى الوزير الأول الصيني الأسبق، شوان لاي، والتي تُحيل بدورها إلى "ثورة الضبّاط الأحرار" التي أُطلقت على حركة 23 يوليو/ تمّوز 1952 في مصر.

لكن يبدو أن الأمر يتجاوز التشابه في المصطلحَين إلى ما هو أبعد بكثير من ذلك؛ إذ يُشير الكاتب المهتمّ بتاريخ الثورة الجزائرية، محمّد عباس، إلى أن العقيد هوّاري بومدين (اسمُه الحقيقي محمّد بوخرّوبة) كان متأثّراً بتجربة جمال عبد الناصر؛ حيث استنسخ أوّلاً تجربة "حركة يوليو" مع استقلال الجزائر صيف 1962 بالبحث عن "محمّد نجيب جزائري" يتحالف معه مرحلياً للتمكّن من الاستيلاء على السلطة منذ أن لاحت في الأفق تباشير الاستقلال غداة مفاوضات إيفيان عام 1961، ووجدَه في شخص أحمد بن بلّة، الذي سيفوز في سباق السلطة في أيلول/ سبتمبر 1962، بدعم من بومدين الذي سينقلب عليه فيما بعد، في إعادةٍ لما شهدته مصر سنة 1952.

ويصف الصحافي، شريف رزقي، تحالفَ بن بلّة وبومدين بأنه "لقاء بين سياسي يهوى الانفراد بالسلطة ويحبّ الزعامة حتى النخاع، وعسكري شابّ تنقصه الشعبية والشهرة ويحب السلطة هو الآخر"، مُعتبراً أن النتيجة المنطقية لذلك، في بلدٍ أنهكته حربٌ تحريرية طيلة قرن وثلث قرن، هي غلبة لغة السلاح ومنطق القوّة. لكن لماذا كان على بومدين التحالف مع بن بلّة في الأصل؟ يجيب رزقي بأن العقيد الشاب أراد أن يضمن السلطة من دون أن يحكم بنفسه، لأنه لم يكُن من القادة التاريخيّين، وكان يفتقد الشهرة والكاريزما، وبن بلّة كان يجمع تلك الميزات الثلاث.

ويُرجِع الكاتب محمد خير الدين ظهور حركة 19 يونيو/ حزيران إلى الخلافات التي طفت على السطح أثناء "مؤتمر طرابلس" في ليبيا عام 1962 قبل قرابة شهر من استقلال البلاد، والتي أدّت إلى دخول "جيش التحرير الوطني" في مواجهة مع "الحكومة المؤقّتة" مع إعلان الاستقلال، وتطوَّر الأمر إلى ما سُمّي حينها بـ "حرب الولايات" (مواجهات عسكرية بين عددٍ من قادة الثورة بعد الاستقلال)، والتي انتهت بخروج الجيش منتصراً، واختيار قادته بن بلّة رئيساً للبلاد.

ويقدّم الكتاب شهادةً للمناضل الراحل، أحمد محساس، الذي كان وزيراً في حكومة بن بلّة؛ حيثُ يقول إن فكرة الانقلاب بدأت حين عزم الأخير على تنحية وزير الخارجية حينها، عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان أبرز المقرّبين إلى وزير الدفاع هوّاري بومدين؛ إذ بدا أن الأمر ليس مجرّد إقالة وزير بقدر ما هو خلاف عميق مع ما يُسمّى "جماعة وجدة" التي جاءت بابن بلّة إلى الحكم، فأقدَمت الأخيرة على التحرّك قبل أن يُطيح بها الرئيس.

ويذهب العقيد الطاهر الزبيري، الذي كان أحد أبرز قادة الحركة ومنفذّها الأول، والذي سيقود بدوره انقلاباً فاشلاً ضدّ بومدين عام 1967، إلى القول بأن بن بلّة "كان ضحيّةَ قراراته الارتجالية"، وأنه "كان يُريد جزائر على مقاسه".

ورغم أن العقيد الراحل، أحمد بن شريف، ظلَّ قائداً لقوّات الدرك الوطني قبل حركة 1965 واستمرّ في المنصب ذاته طيلة فترة بومدين قبل أن توكَل إليه وزارة الريّ، فإنه قدّم في الكتاب شهادةً مفاجئة؛ حيث قال إنه كان ضدّ "الانقلاب"، وأنه استُجوب بعد حدوثه "بحكم منصبه الحساس"، فواجهَ القيادة الجديدة بالقول إن إزاحة بن بلّة تعني "إلغاء الشرعية"، مضيفاً أن بومدين كان يمثّل "اللاشرعية".

ويُقدّم الكتاب شهادةً لأحمد طالب الإبراهيمي، المناضل الذي كان معتقلاً في فترة بن بلّة، ليُصبح وزيراً للتربية ثم للثقافة والإعلام فوزيراً مستشاراً للرئيس بومدين؛ حيثُ يروي كيف أقنعه الأخير بتولّي وزارة التربية حتى "يتمكّن من مواصلة رسالة والده الشيخ محمد البشير الإبراهيمي" الذي كان رئيساً لـ "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، وكان بدوره رهنَ الإقامة الجبرية في فترة بن بلّة.

نقرأ، أيضاً، شهادة محمد يوسفي، الذي كان مديراً للأمن الوطني في بدايات حكم بن بلّة، والتي يروي فيها تفاصيل ليلة الانقلاب. كان الرجلُ من الذين نبّهوا الرئيس إلى ما يُحاك ضدّه، لكن الأخير لم يعبأ بذلك، ما دفع يوسفي إلى تقديم استقالته. وتلك التفاصيل نقرأها أيضاً في شهادة الصحافي الفرنسي جاك دانيال الذي كان في الجزائر يومَ الانقلاب.

ويشير الباحث الأميركي في الشؤون الجزائرية، وليام كوانت، إلى أن مقاومة الانقلاب داخل القيادة السياسة كانت ضئيلةً، حتى أنه لم يُعتَقل مع بن بلّة من المكتب السياسي لـ "حزب جبهة التحرير الوطني" إلّا عضوان اثنان، مُعتبراً أن ذلك يدلّ على درجة قلّة الولاء التي استطاع أن يصنعها خلال فترة حكمه.

أمّا الصحافي البولوني المتخصّص في الشأن الجزائري، ريدزارد كابودانسكي، فسلّط الضوء على التناقضات التي كانت تعيشها الساحة السياسية بعد الاستقلال، مشيراً إلى أن الرئيس كان يُخصّص معظم وقته لمحاربة خصومه، واصفاً الوضع بأنه كان "حالةً دائمةً من المؤامرات"، ليخلص إلى القول بأن بن بلّة كان يعلم بأن بومدين سينقلب عليه يوماً.

تضمَّن الكتاب أيضاً مقالات وشهادات من الكاتب الصحافي السويسري شارل هنري، والمؤرّخ الفرنسي المختصّ في الثورة الجزائرية بنيامين ستورا، ومواطنه الصحافي إيرفي بورغ، والمؤرّخ الجزائري محمد حربي، وكلّهم كانوا شهوداً على ذلك الحدث البارز في تاريخ الجزائر.

ينتهي العمل وسؤاله المحوري يتعمّق أكثر. وبغضّ النظر عن الإجابة، فإن ما حدث كان "خريفاً" لأوّل رئيس للدولة الجزائرية المستقلّة، وربيعاً للعقيد الذي سيتحوّل إلى أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ البلاد.

في وقتها، توقّع كثيرون قيام هبّة شعبية لإعادة أحمد بن بلّة إلى الحكم. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث. بالعكس، تحوّل هوّاري بومدين في ظرف قياسي إلى "زعيم شعبوي"، خصوصاً مع تأميمه المحروقات عام 1971، وتأسيسه المدارس والمصانع، بينما اختفى غريمُه في غياهب السجن. وتواصلت شعبية بومدين حتى رحيله عام 1978 مسموماً، كما تقول مؤشرات عديدة.



المساهمون