وجاء إعلان 31 نائباً من الكتلة البرلمانية لـ"النداء" من أصل 86 نائباً، يوم الأحد، عن استقالتهم من الحزب، في أعقاب فشل الاجتماع الذي عقد بين النواب المنشقين مع رئيس الحزب محمد الناصر، يوم الأحد، إذ لم يقتنع النواب المعترضون بمبادرته لجمع الشقين المتصارعين في الحزب. ونشر بعض النواب، على صفحاتهم الرسمية على "فايسبوك"، صوراً عن الاجتماع المغلق الذي جمعهم بالناصر. كما نشر النائب كريم بقلوطي على صفحته الرسمية تأكيداً، لاستقالة 31 نائباً من الكتلة البرلمانية لـ"نداء تونس".
وكان النائب وليد جلاد قد أكد لـ"العربي الجديد"، أنه إذا لم يُعقد اجتماع المكتب التنفيذي للحزب قبل يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني، أي اليوم الثلاثاء، فإن "مجموعة الثلاثين" ستنفذ تهديدها وستنفصل عن الكتلة النيابية وتستقيل من الحزب، وهو ما تم بالفعل يوم الأحد.
وتطرح أزمة الحزب الأول في تونس، فرضية دستورية وسياسية لم تكن في الحسبان، إذ إن انشقاق 31 نائباً من أصل 86 عن "النداء" وإعلان إمكانية تشكيلهم لكتلة مستقلة، يعني فقدان الحزب للغالبية البرلمانية، وتقدّم حركة "النهضة" من المرتبة الثانية، إلى صاحبة الغالبية الجديدة في مجلس نواب الشعب، مع 69 نائباً من أصل 217.
وقد أربكت هذه التطورات صفوف بعض قياديّي "النهضة"، وأُطلقت جملة من التصريحات "المتبرّئة" من أي نية أو رغبة في الحكم، كان أهمها ما صدر عن زعيم الحركة راشد الغنوشي، الذي سارع إلى التأكيد بأن "النهضة" ليست لها النية للانفراد بالحكم أو قيادته، بل ترى أن الوضع الحالي الذي تعيشه البلاد يتطلب استمرار حكم الائتلاف الرباعي.
اقرأ أيضاً: أزمة "نداء تونس": سيناريوهات المصالحة والقطيعة
ولحق بالغنوشي أحد القياديين الأقوياء في الحركة وهو عبد اللطيف المكي (وزير للصحة في حكم الترويكا)، الذي أشار الى أن "الأزمة الحاصلة صلب (نداء تونس) لم تؤثر على العمل الحكومي أو الائتلاف الحاكم. وعلى عكس ما تمّ ترويجه، فإن حركة "النهضة" لا تنتظر أي فرصة للانقضاض على الحكم في حال تفاقم الصّدع داخل نداء تونس".
وفي يوم واحد، تنقّل الغنوشي بين قصري الرئاسة والحكومة ليؤكد للرئيس الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة الحبيب الصيد، دعم حزبه لسياسة الرئيس والحكومة معاً.
تعكس جميع هذه المواقف حرصاً من الحركة على حالة الاستقرار ولو كانت هشة، وسعياً لصيانته من كل إرباك أو تهديد. غير أنها في الوقت نفسة تعكس خوفاً مبرراً وموضوعياً من إدارة الحكم في مرحلة تعتقد "النهضة" أنها غير جاهزة له، وأن الظروف التونسية والإقليمية لم تنضج كفاية لتكون متقبّلة لإدارة إسلامية للحكم. وتدرك "النهضة" بعد تجربة الترويكا أنها لم تكن مستعدة للحكم، في ظل اقتصاد تونسي ضعيف ارتهن منذ الاستقلال بدعم الاستثمار الأجنبي. وظلت تراقب بعد الثورة تجربة الترويكا بريبة كبيرة، وهي الآن تسعى إلى التقليص منها عبر خطاب أكثر عقلانية تروّج لنفسها من خلاله شريكاً مقبولاً للفضاء الأوروبي والدولي.
نقسم كتلتنا ولا نحكم منفردين
ويختصر أحد النواب التونسيين وضع "النهضة" حالياً، لناحية عدم رغبتها في الحكم منفردة، على شاكلة نكتة سياسية مفادها أنه "في حال وجدت النهضة نفسها صاحبة الأغلبية في المجلس ومضطرة إلى تطبيق الدستور وقيادة الحكومة كأكبر الأحزاب تمثيلاً، فإنها بدورها ستقسّم كتلتها النيابية إلى كتلتين، لتبقى الحزب الثاني في المجلس".
غير أن هذا الرأي ليس الغالب داخل الحركة، وهناك من يتساءل ويطرح إمكانية الحكم، خصوصاً بعد المرور بالتجربة وفهم آلية عمل الدولة والاقتراب من مشاكل البلاد والتعرف عليها، وبعد الولوج الى التفاصيل من خلال تجربتَي المجلس التأسيسي ومجلس نواب الشعب. ويرى هذا التيار أن مشاكل "النداء"، الحليف الأول والمنافس الأول، بيّنت أن "النهضة" تبقى أكثر حزب منتظم ومنضبط ومهيكل.
وعبر عن هذا الرأي بطريقة غير مباشرة أحد أهم قياديّي "النهضة"، رئيس مجلس الشورى فتحي العيادي، حين كتب يهنئ تركيا بنجاح انتخاباتها واختيارها "لمن يقودها نحو ازدهارها وعزتها".
ووجه العيادي رسالة الى الداخل، تؤكّد أنه إذا لم تستوعب الأحزاب السياسية في تونس أن مرحلة الانتقال الديمقراطي تفرض تقديم مصلحة البلد على المصالح الخاصة، وأن التوافق والتشارك إنما لخدمة هذه المصلحة وليس تعطيلها، عندها تصبح التجربة التركية الخيار الصحيح لتحقيق الإصلاحات الكبرى وقيادة تونس نحو تنمية حقيقية. وهو ما يعني صراحة امتلاك الغالبية داخل البرلمان، وإن كانت بانتخابات جديدة لتحقيق هذه الإصلاحات.
وبما أن رأي العيادي كان أقلّياً داخل الحركة، فهو يبقى صوتاً ممثلاً لأصوات أخرى ربما تتحسّر على عدم طرح هذه الإمكانية، التي تبقى دستورية ومشروعة ولا لُبْس فيها. غير أن القيادة النهضوية ترى أن الحركة أمامها طريق طويل لحسم أسئلتها الداخلية الفكرية والتنظيمية وتوسيع قاعدتها الشعبية وتوطين وجودها المحلي وتطمين الساحتين الإقليمية والعربية، وهذا يحتاج الى وقت. كما يحتاج إلى حالة من الهدوء والاستقرار الذي ينبغي الدفاع عنه بكل الوسائل، حتى لا يسقط السقف على الجميع ويخسر الجميع.
غير أن هناك جانباً آخر يفرضه سياق اللاحكم ــ اللامعارضة الذي وجدت "النهضة" نفسها فيه بعد الانتخابات الأخيرة، إذ أن تمثيلها في الحكومة لا يرتقي الى درجة الحليف القوي، وبعض المواقف الحكومية تجعلها في وضع المستهدَف أحياناً، وهو ما جعل مواقفها ناقدة أحياناً للحكومة وكأنها في قلب المعارضة. ولا يخفي فتحي العيادي موقفه مثلاً من مسألة التعيينات وغضب "النهضة" منها أو مسألة الإعفاءات، التي شملت كل من تم تعيينهم في عهد الترويكا بغض النظر عن انتمائهم الحزبي. ورأى أن الأمر لا يتعلق بحركة تغيير المحافظين الأخيرة فقط بل بجميع التعيينات منذ تسلم الحكومة لمهامها، وهو موقف متجانس مع مواقف الأحزاب المعارضة التي وجهت نفس الانتقادات إلى الحكومة.
لكن اللافت كان هجوم "النهضة" على وزير الشؤون الدينية عثمان بطيخ (الأوقاف) بخصوص عزل بعض الائمة، إذ اعتبرت أن ما يقوم به بطيخ "طرد تعسفي واستهداف عشرات الأئمة الذين عُرفوا باعتدالهم"، وهو ما خلّف "انطباعاً بأن الأمر يؤشر إلى عودة التصفيات الإيديولوجية في تعارض تام مع مصلحة البلاد وما تقتضيه من وحدة وتجميع للصفوف خصوصاً على المستوى الديني الذي يُعتبر عنوان الصراع الرئيسي مع الإرهاب الذي يهدد بلادنا". واعتبرت أن "هذه السياسة إذا تواصلت ستتحوّل أداة الاستقطاب الرئيسية للإرهاب ومغذياً لآلة الدعاية الإرهابية". وذهبت إلى حد اعتبار هذه السياسة "موروثة عن الديكتاتورية".
ووضع هذا الموقف الغاضب على الحكومة، "النهضة" في موقع الحزب المعارض بامتياز، وهو ما تشعر به قواعد كثيرة للحركة لا تتحمس لإسناد قرارات الحكومة شعبياً، وهو ما عبرت عنه "النهضة" للرئيس ولرئيس الحكومة، كما عبرت عن عدم رضاها عن تمثيلها في الحكومة، ونادت بضرورة ضخ دماء جديدة في التشكيل الحكومي. وهي تهدف بذلك ألا تتورط في حسابات الربح والخسارة حين يحين موعد الحساب، ويبقيها في الوقت نفسه على تماس مع الشأن الحكومي وقريبة من دواليب الحكم ومراكز القرار.
ولم يكن موقف الحركة بعيداً عن هذا الموقع في العديد من القضايا الهامة على غرار قانون المصالحة الاقتصادية الذي طالبت فيه بإدخال تنقيحات هامة قبل عرضه على المجلس وأخذت كل وقتها لدراسة تفاصيله، فضلاً عن بعض الملفات الخارجية، إذ لم تتجانس مواقفها مع الحكومة بخصوص سورية ومصر وليبيا، وحافظت على مسافة واضحة لعدم الإضرار بمواقفها المبدئية من هذه القضايا، ما جعلها في موقف فعلي بين منزلتين، الحكم والمعارضة. حتى اللحظة، أجادت الحركة المكوث في هذه المنطقة. لكن الظروف الطارئة قد تدفعها الى الاختيار بينهما.
اقرأ أيضاً: الغنوشي يؤكّد دعم "النهضة" الكامل لسياسة السبسي