"النهضة" التونسية بين السياسي والدعوي: محطات سبقت "القرار الكبير"

19 مايو 2016
مؤيدون للنهضة في ذكرى استقلال تونس مارس الماضي(أمين الأندلسي/الأناضول)
+ الخط -
حسمت "حركة النهضة" أمرها في مسألة التمييز بين العنصرين السياسي والدعوي، وهو ما أكده مجلس الشورى في بيانه الذي صدر في أعقاب اجتماعه الأخير قبل أيام. وقد دلّ ذلك على حصول توافق بين التيارات الرئيسية التي تتكوّن منها الحركة، وذلك بعد جدل استمر أشهراً حول هذه المسألة، إلى جانب قضايا أخرى كانت مثار خلاف، وتم التوصّل في شأنها إلى توافقات داخلية. هي قضايا من شأنها تجنيب الحركة مخاطر الانقسام، أو على الأقلّ تخفّف من حدّة الاحتقان خلال جلسات المؤتمر العاشر، المقرّر عقده غداً الجمعة على أن يستمر حتى الأحد المقبل.
كانت النواة الأولى للحركة الإسلامية في تونس مرتبطة فكرياً وتنظيمياً بتجربة "الإخوان المسلمين"، التي اعتُبرت في تلك المرحلة "مثالاً" اقتدى به مؤسسو "الجماعة الإسلامية"، التي تحوّلت فيما بعد إلى حركة "الاتجاه الإسلامي"، قبل أن تحمل اسم "حركة النهضة".

يومها وضعت الحركة وثيقة ملزمة لأعضائها تحت عنوان "الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي". ومما ورد فيها التأكيد على أن "الحركة تتخذ العقيدة الإسلامية منطلقاً لها، مثل الإيمان بأن الله واحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، هو الأول والآخر"، أو القول "نحن لا نفرق بين التوجه لله بالشعائر والتلقي منه في الشرائع، لا نفرّق بينهما بوصفها من مقتضيات توحيد الله وإفراده سبحانه بالألوهية والحاكمية". أو التأكيد على "أننا لا نكفّر مسلماً أقرّ بالشهادتين وتوابعها مما سبق ذكره، وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض برأي أو معصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن أو فسّره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلاً غير الكفر".



وجدت الحركة نفسها بعد ثورة تونس (2010) في مناخ مختلف، بعد أن أصبحت شريكاً أساسياً في مسارٍ يهدف إلى بناء نظام ديمقراطي، لم يعد يسمح لها بتوظيف الإسلام من أجل الوصول إلى الحكم. لكن مع ذلك استمرت إشكالية العلاقة بين العنصرين الدعوي والسياسي إلى ما بعد الثورة. عندها طرحت مسألة "سبل تصريف المشروع"، في مرحلة بدأت خلالها الحركة في التكيّف مع الإجراءات القانونية التي وُضعت للفصل بين مفهوم الحزب ومفهوم الجمعيات. ومما زاد في تشجيع الحركة على التقدم في هذا الاتجاه وجود تجارب في بعض الدول، تحديداً التجربتين التركية والمغربية، إلى جانب تعثر الصيغة المصرية.

لقد ألغى مشروع الوثيقة الجديدة التي ستُعرض على مؤتمر الحركة، الوثيقة العقائدية السابقة، واستبدلها بـ"رؤية استراتيجية بديلة"، تنصّ على أنه "إذا كانت الحركة فيما مضى قد تداخل فيها العنصر الدعوي بالعنصر السياسي، فإن الوضع الجديد قد وفّر فرصة لمراجعة هذا الخيار وإصلاحه". وجاء في الوثيقة أن "ذلك تمّ بعد أن أصبح المجال مفتوحاً على ممارسة العمل السياسي، مع إمكانيات كثيرة لتفعيل البعد الثقافي الدعوي والمجتمعي ضمن فضاءات جديدة".

هذا التحوّل الجديد الذي قررت اعتماده الحركة لن يكون سهلاً، وقد لا تُحسم هذه الإشكالية بالسرعة المطلوبة، مما سيجعل بقية القوى السياسية المناهضة لـ"حركة النهضة" تستمرّ في أسلوب ملاحقة الحركة والتشكيك في صدق نواياها.

مع العلم أن الحركة تحدثت عن "ضرورة الخروج من حالة الخلط بين الحزب والحركة". وهو ما يفترض وجود هيكلين يقتربان من الصيغة المغربية، فتكون للحزب أولوياته وقيادته، ويكون للمجال الثقافي والدعوي آلياته التنظيمية المستقلة، من دون أن يعني ذلك حصول فصل تام بين الدائرتين.

من جهة أخرى، يؤكد قياديو الحركة أنها لم تتخلّ عن مرجعيتها الدينية، بل يتعلّق قرارها بالتوجه نحو التخصص، أي أن كل طرف سيسعى إلى إنجاز المهام التي يحسن فيها. وذلك يحصل، وفقاً للقياديين، عندما "يختص الحزب السياسي بالعمل السياسي، ويعود العمل المجتمعي لمنظمات المجتمع المدني، بقيادة شخصيات متخصصة تقوم بمهام التربية والدعوة والتثقيف". وتضيف الوثيقة أن "الجمعيات يُمكن أن تشترك مع الحزب في المرجعية الفكرية والخط الاستراتيجي العام، لكن لا يجوز لها أن ترتبط به تنظيمياً ولا مالياً ولا يقودها رموز وقياديون مباشرون فيه". بذلك تكون "حركة النهضة" قد تأقلمت مع مقتضيات قانوني الأحزاب والجمعيات، لكنها حافظت في الوقت نفسه على وحدة التوجه والاختيارات الكبرى لمشروعها السياسي والثقافي.