بعد أفلام قصيرة عديدة دشّن بها مسيرته الإخراجية بدءًا من عام 2009، آخرها "زيارة الرئيس" (2017)، الفائز بـ"جائزة لجنة التحكيم الخاصة" في الدورة الـ14 (6 ـ 13 ديسمبر/ كانون الأول 2017) لـ"مهرجان دبي السينمائي الدولي"؛ وبعد مُمارسته الإخراج التلفزيوني، انتقل اللبناني الشاب سيريل العريس (1987) مؤخّرًا إلى السينما الوثائقية، مُنجزًا "المرجوحة" (2018)، المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية للدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي".
في الأعوام القليلة الماضية، لوحِظ ازدياد وتيرة نوع سينمائي وثائقي يمكن تسميته بأفلام الأسرة، التي يرصد المخرج فيها شخصية أو أكثر من أفراد أسرته، متتبّعًا سِيَرهم أو ماضيهم أو حاضرهم. أحيانًا، يكون الفيلم كوميديًا، كـ"العديد من الأولاد، وقرد، وقلعة" (2017) للإسباني غوستافو سالميروني، الفائز بجائزة "الكرة البلورية" لأفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ52 (30 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 2017) لـ"مهرجان كارلوفي فاري" نفسه. بينما ينتمي "الجانب الآخر من كل شيء" (2017) للصربية ميلا توراغليتش، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ30 (15 ـ 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ"المهرجان الدولي للأفلام الوثائقية في أمستردام"، إلى النوع السياسي.
إلى جانب كونها ذاتية الطابع، يُصنع الفنيّ ـ الجماليّ في أفلام الأسرة بصبر ودأب كبيرين، من دون استسهال أو استخفاف بما يُقدَّم. وعادة، تُنجز هذه الأفلام في فترات زمنية طويلة نسبيًا.
سمات كهذه تنطبق على "المرجوحة"، المتميّز أيضًا بكونه نادرًا في مناخه وموضوعه، ليس بسبب الأسى أو الحزن، بل بغلبة الموت عليه، إذْ يقترب سيريل العريس كثيرًا منه، إلى درجة الشعور به ولمسه. فالموت كامن في كلّ دقيقة من دقائقه الـ74، ما يجعله شديد الثقل على النفس والمشاعر، خصوصًا أن هناك ـ إلى جانب الموت والاحتضار ـ المرض والشيخوخة والعجز والـ"ألزهايمر" وغيرها.
جعل سيريل العريس والديه أنطوان وفيفيان بطلي "المرجوحة"، مُقدِّمًا منذ الدقائق الأولى حالة حزنٍ ناتج من فقدان ابنتهما ماري ـ تيريز. مع اتّضاح الموضوع سريعًا، يُطرح تساؤل عن كيفية إكمال المُخرج موضوع فيلمه وبنائه، بعد انكشاف الحبكة. التحدّي كبير والرهان أكبر، لا سيما أن الفيلم ليس روائيًا، إذْ لا أبطال ولا نجوم، والشخصيات قليلة للغاية، أبرزها الأب والأم اللذان لا يُفارقان الشاشة إلاّ قليلاً. فقد تمكّن العريس من إكمال فيلمه بشكلٍ سليم وجذّاب، بنائيًا وفنيًا، رغم صعوبة الموضوع ودقّته وحساسيته، حتى بالنسبة إليه شخصيًّا. ورغم الحزن الجاثم وآلام الأم وشبح الموت المُخيِّم في كلّ لحظة، إلاّ أن الفيلم "مُمتع" فعليًا، ورغبة إكمال مُشاهدته حتى النهاية لا تفتر.
إلى الأحزان المُشَاهَدة، يطرح الفيلم قِيَمًا راقية وسامية: النُبل مُجسّدًا في حبّ فيفيان تجاه زوجها، وفي الوفاء له والعناية به ورعايته. الأم مكلومة لفقدانها ابنتها. قلبها ينفطر لفراقها. لا تستطيع النسيان ولو للحظة واحدة. مع ذلك، تدفن حزنها، وتُغالب دموعها وآلامها لتُخفي على زوجها حقيقة ما حدث خوفًا عليه. الزوج دائم السؤال عن ابنته، من دون كلل أو ملل، فهو ينسى ذلك بسبب "ألزهايمر"، من دون الكفّ عن تذكّرها لشدّة حبّه لها، ولتنبّهه الدائم لاهتمامها به ورعايتها له قبل "اختفائها" عنه.
يعيش أنطوان وهم أن ابنته لا تزال حيّة، وأنها تعيش في الأرجنتين، وأنها ستعود يومًا ما كما قيل له. يُمارس حياته اليومية الروتينية المُملّة والخالية من كلّ شيء، باستثناء الأكل والشرب والنوم والجلوس ساكنًا يتأمل اللاشيء. أحيانًا، يستعيد الماضي وذكرياته؛ وأحيانًا أخرى، يبدو حاضر الذهن ومُرهف السمع. يتذكر جيدًا كلّ شيء: تفاصيل من الماضي، ولغته الإيطالية، وذكريات العيش في إيطاليا، وزواجه من فيفيان طوال 65 عامًا، والأولاد والأحفاد. إلخ. معظم الوقت، يبدو طفلاً محتاجًا إلى من يُطعمه ويسقيه ويضعه في الفراش ويُنبِّهه إلى كلّ شيء.
مُعاناة فيفيان تتزايد، فهي واقعة بين فجيعتها على ابنتها، وتدهور حالتها الصحية، بالإضافة إلى حالة زوجها المُرهِقة لها نفسيًا وذهنيًا، رغم أنها لا تعتني به جسديًا بفضل وجود خادمة تهتمّ به. في لحظات كثيرة، يظهر ضعف فيفيان. مع كلّ سؤال من أنطوان يُتوقّع أنها ستُخبره بالحقيقة التي تشكّ أحيانًا أنه "يشعر بها". في نهاية الفيلم، تُخبره باقتضاب، لكن ضعف سمعه يحول دون ذلك. يتضاعف ألمها وحُزنها المكبوتان. تنفجر الدموع من عينيها بين حين وآخر، خاصة مع سماع زوجها يطلب الموت لأنه سئم المرض والعجز والحياة، ولا يعرف لماذا يعيش. تعيد فيفيان له، من وقتٍ إلى آخر، إيمانه بالله والقضاء والقدر، رغم ضعفها وتعبها الظاهرين في الحياة وثقل الحياة عليها.
تستمر هذه المَشَاهد بين فيفيان وأنطوان في الفيلم كلّه. تتكرّر اللقطات والجُمل الحوارية نفسها كثيرًا، مع اختلاف الكادرات داخل حجرات المنزل أو على شرفته. تكرار المَشَاهد ليس ضعفًا في البناء أو السيناريو، بل تأكيد على أن هذه هي الحياة في تلك الفترة من العمر: حوارات مُكرّرة ومُملّة، روتين يومي، عجز وتعب ومرض وسأم ولاجدوى ورغبة في ترك الحياة. والأقسى: إدراك المرء هذا كلّه.
أحد أقسى المَشاهد، إلى قسوة الموضوع ومصير الزوجين، كامنٌ في طلب فيفيان من أنطوان أكثر من مرة أن يُخبرها بشيء، فيُجيبها مُتسائلاً: "أي شيء؟"، فتُجيبه بأنها لا تعرف. هي تقصد أي شيء لتمضية الوقت، ولإبعاد ثقل الزمن ووطأة الأيام ومرارة الحاضر.
"المرجوحة" مصنوعٌ بحبّ ومصداقية. هناك حِرَفيٌّ يُدرِكُ ما يُريده من المادة التي يصنع بها فيلمه الوثائقي الأول. لا عيوب فادحة فيه. فنيًا، يُحسب له استخدامه القليل جدًا من المواد الأرشيفية الخاصة بفيديوهات العائلة بما يُفيد الفيلم. كذلك تلك المُتعلّقة بشقيقته الراحلة ماري ـ تيريز، التي تظهر قليلاً في الثُلث الأخير منه. كما أنه متمكّن من صُنع فيلم جيد للغاية من مادة بسيطة فنيًا وعميقة إنسانيًا وثقيلة على المشاعر. تُحسب له براعته في التخلّص مونتاجيًا مما لا فائدة منه، وطبعًا تصوير المادة كلّها داخل شقة العائلة، رغم صعوبة تصوير كهذا وصعوبة هذا النوع من الأفلام التي تدور أحداثها في أماكن مُغلقة.