"المدارس الفنية": نقاش مفتوح أبعد من المناسبة

28 نوفمبر 2019
(من المؤتمر)
+ الخط -

على أهمية الأوراق التنظيرية التي يطرحها النقّاد المشتغلون في الفنون البصرية، فإن النقاشات وتبادل الأسئلة لا الإجابات الناجزة، بل والاختلافات، تكتسي ضرورتها الحيوية.

في الدوحة، وعقب اختتام مؤتمر "المدارس الفنية: تواريخ ومآلات"، الذي توزّعت جلساته بين "معهد الدوحة للدراسات العليا" و"المتحف العربي للفن الحديث"، يمكن لمتابعي الجلسات على مدار ثلاثة أيام (من 25 إلى 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري) جمع حصيلة من الأسئلة، والانخراط في بحثها، بوصف الفن جزءاً أصيلاً من دورة الحياة، لا مناسباتياً من مؤتمر إلى آخر.

وقف المتحدّثون أمام مصطلح الطلائعية، ومن ذلك سؤال حميد كشميرشيكان، المحاضر في تاريخ الفن والأركيولوجيا، عن طلائعيّي بلاده إيران الذين لجأوا إلى الرموز التراثية، كالحروف والمفردات الزخرفية، بينما الطلائعية في أوروبا كانت أصلاً انقلاباً على الفن التقليدي.

تساؤل آخر قدّمه أحد الحضور بشأن الأعمال الفنّية ذات الحجم الضخم، وبما فيها من شغل حرفي وإدارة فنية، أي أنّ المسهمين فيها، أشخاص يبقون في الظل، ويُنسَب العمل إلى راعٍ واحد. هل الفكرة هي الحقيقة بوصف الإبداع؟

لماذا كانت صور الشهداء في الأعمال الفنية الفلسطينية كاملة، وبعد أوسلو صارت تنحسر ويُرمز إليها رمزاً؟ هل كان الفلسطيني اللاجئ كائناً عالمياً، ثم ذابت ملامحه؟

في التمرّد على المؤسسة الرسمية، هناك جيل شاب دائماً يجترح وسائله.

يشير حميد كشميرشيكان إلى أن الجامعات الحكومية في إيران وجامعة أزاد الضخمة وشبه الخاصة، طوّرت مناهج فنون، لم تتّفق وتطلّعات الشباب، الذين أشبعوا رغبتهم في المعرفة، ما أنتج فنّانين ذوي استقلالية أكثر وضوحاً، متحدّين المعارف "المعلّبة التطبيقية" والصور النمطية وغياب العدالة الاجتماعية، وفق قوله.

غير أن تمرّداً من لون آخر تناوله الفنان الفلسطيني محمد جبالي، يذهب إلى متمرّدين في "الدولة" الصهيونية. يتحدّث عن تمرّد الفن بوصفه أداة لتعريف الحدود الاستعمارية، وفحص بالتحديد تجربة "أكاديمية بتسلئيل" في القدس.

يسأل جبالي: ما الذي يجعل العمل الفني "إسرائيلياً" وليس يهودياً؟ ووفقاً له، فإن تأسيس حقل فني حداثي غربي أمر أساسي للعملية الاستعمارية الصهيونية في فلسطين.

ويستعيد المحاضر تاريخ 1906؛ حين أسّس بوريس شاتس مركزاً للفنون، تحوّل لاحقاً إلى "معهد بتسلئيل للفنون الجميلة" في القدس، ويرى أن هذا التاريخ أُريد به أن يكون البداية التي تسمح بعملية القطع والتمركز الجغرافي.

يلاحظ جبالي كمّاً كبيراً من اللوحات والملصقات التي ركّزت على اللحظة اليومية في محاولة للتطبيع مع المكان الغريب، وعرض جملة من اللوحات، التي أذعنت للواقع الفلسطيني الثقافي، حتى إن اسم فلسطين كان الاسم الحقيقي للأرض، ويظهر ذلك مباشرة في العديد من الأعمال، أو من خلال رسم الواقع بما هو مكان وبشر.

لكن التمرّد على "بتسلئيل" سيكون مفاده أن المرجعية الفّنية يجب أن تنتمي إلى حقل حداثي ذي مركزية غربية، لجهة العقل المبدع أو لجهة النظر إلى الفلسطيني، باستعلاء وفي أفضل الأحوال باستشراقية.

هذا المكان، يذهب إليه عصام نصّار، أستاذ التاريخ في "جامعة ألينوي" و"معهد الدوحة للدراسات العليا"، لكن من زاوية التصوير الفلسطيني ما بين الفن والتوثيق. فالتصوير الفوتوغرافي دخل فلسطين فور اختراع الكاميرا على أيدي مصوّرين أوروبيّين زائرين، كان جلّ اهتمامهم توثيق البلاد المقدّسة، والمواقع الدينية فيها، رغم أن عدداً منهم جاء أساساً من خلفية فنية.

يسترجع نصّار نقاشاً لا بدّ منه حول الفنّي والحرفي في التصوير الفوتوغرافي؛ فقد قيل الكثير، بيد أنّ ما مالت إليه التنظيرات أنّ الصورة، بحسب من ينتجها، وليست عملية تقنية معزولة. كما أن التوثيق لا يعني حكماً غياب البعد الفني. مثاله على ذلك شهيدول عالم، المصوّر البنغالي المعروف الذي يجمع البعدين في آن واحد.

في الحالة الفلسطينية، سنكون أمام كمّ كبير من الصور، حصل بسبب ما يقول نصار إنها "اختفاء" فلسطين بين ليلة وضحاها، عودة إلى عالم الصور المنتجة بيد مصوّرين وطنيّين.

بين العديد من الصور التي يقرؤها، يسلّط الضوء على صورة تعود إلى عام 1924، لحفل تنكّري ببيت ألفرد روك في يافا.

ويخلص نصار إلى أن جمانة مناع أعادت إحياء الصورة. هي لا تعيد إنتاج المشهد كما كان، وإن بدا ذلك في الصورة، بل تُمسك بهالة لحظة سابقة تمرّ أمامها في زمن خطر هو زمنها، زمن الاحتلال.

أسئلة الفنّانين ما بعد الاستعمار تركّز أكثر على الهوية، لكنهم يختلفون في طرق التعبير، ومنهم من يصطدم مع السلطة الوطنية، ومنهم من يخدمها، ومنهم من خدم السلطتين الاستعمارية والوطنية، ومنهم دفع ثمن حريته، ومنهم من أدار ظهره لأي معنى يؤطّره.

دنيا بنقاسم، الأستاذة المتقاعدة في اللسانيات من "جامعة الحسن الثاني" المغربية، تضيء على مرحلة هامّة من تاريخ الفن المغربي، لارتباطه بالاستقلال الوطني وتفكيك الإرث الاستعماري. في صورة تعود للعام 1966، تجمع الفنانين فريد بلكاهية ومحمد مليحي ومحمد شبعة. إنهم ليسوا وحدهم، بل بعض حراك ثقافي واسع، في زمن ضج بالأيديولوجيا وحركات التحرّر.

تناولت تجربة "معهد الدار البيضاء" منذ الستينيات حتى مطلع السبعينيات، والنتاج الفني الذي أخذ ينهل من رموز محلية، لم تكن تقابل باحترام في عهد الوصاية. تقول بنقاسم إن الفنّانين عملوا بحماسة هائلة عقب الاستقلال، وتعاضدوا مع حراك أدبي ممثّل في مجلة "أنفاس" التي كان من مؤسّسيها الشاعر عبد اللطيف اللعبي.

في الجلسات الثلاث، لم تخل واحدة منها من موضوع الأرشيف، إن كان على شكل نقد لاذع لغيابه، وهذا هو الغالب، أو لجهة الاحتفاء بمنجز أرشفة.

سيرين عبد الهادي، المستشارة التونسية في التربية الفنية، قدّمت عرضاً بعنوان "نظرات متقاطعة على المعهد العالي للفنون الجميلة في الجزائر"، تحدّثت فيه عن إنشاء موقع إلكتروني لتوثيق وتسليط الضوء على خصوصية هذه المؤسّسة الثقافية الفريدة من نوعها في الجزائر.

وبحسب قولها، فإن هذا المشروع نابع من ملاحظة حول قلّة المعلومات والأبحاث التي توثّق تاريخ الفن في الجزائر وشمال أفريقيا في نطاق واسع، مشيرة إلى أن الأمر لا ينحصر في المغرب العربي بل هو في العالم العربي عامة، مع غياب الأرشيفات، أو صعوبة الاطلاع عليها.

بدوره، عرض الباحث الهندي تجربة بعنوان "البيداغوجيا التجريبية والممارسات الفنية: ملاحظات من مشروع أرشيف بارودا في أرشيف فن آسيا".

المساهمون