"الليل" لـ ميكائيل فوسيل: جولة خارج الذات النهارية

24 يوليو 2018
(لوحة "جزيرة الأقدار" للفنان الإيطالي ألبيرتو سافينيو)
+ الخط -

ليس الليل من موضوعات الفلسفة التقليدية. ولم يكن له ليكون كذلك في ظل تقليد لا يكفّ، منذ ديكارت على الأقل، عن اعتبار الوضوح، ومعه المَيْز (الفصل بين الأمور وفرزها)، شرطاً أولياً لكل فلسفة وفكر منهجيّ.

ولا يُفاجأُ المرء إذ يعرف أن الوضوح، في العربية، وكذلك في غالبية اللغات الماتحة من اللاتينية، من عناصر النهار وصفاته. إذ ليس الوضَحُ، كما يذكّرنا "لسان العرب"، إلا "بياض الصبح والقمر". والأمر ذاته ينطبق على المقابل الفرنسي (clair) الذي يعني أساساً نور النهار وبريقه. ولعلّ تحوّل الكلمة (وكثير من صفات النهار) في لغات عدّة إلى استعارة عن الجلاء والدقة وحتى الخير، لدليل على تفضيل تاريخ الفكر النهارَ على الليل، الضوء على العتم والفجر على الغروب.

رغم صواب هذا الاستنتاج التاريخي من نواحٍ عدة، إلا أن التوقّف عند نتيجته قد يحول، من نواحٍ أخرى، دون القدرة على التفكير فلسفياً في خصوصية الليل.

ولعلّ ميكائيل فوسيل على حقّ إذ ينبّه إلى ضرورة تجاوز الثنائيات والمقارنات بين الليل والنهار وقيَمهما في أي مسعى لدراسة الليل. في كتابه الأخير "الليل: العيش بلا شاهد" (منشورات أوترمون)، يختار المفكر الفرنسي، بدلاً من ذلك، مساءلة الليل بوصفه مكاناً للتجربة: ما الليل إذ يعيشه المرء ويخبَره؟

الإجابة عن هذا السؤال تبدأ بتحديد المقصود بتعبير "تجربة الليل". إذ لا تعني الأخيرة بقاء العينين مفتوحتين طيلة الليل، ولا تعني، أيضاً، مجموع النشاطات الليلية على اختلاف أنواعها. فالعمّال المناوبون ليلاً والمرضى والأرِقون لا يخبَرون الليل، بل يُقاسونه.

إنهم يقضونه وهم يفكّرون بأيّ شيء غيره. بل إن تجربتهم الليلية تنتهي قبل أن تبدأ: هي تولد ميتة، بسبب رغبتهم في انتهاء الليل وانتظارهم لهذه النهاية. أمّا السهارى المحترفون، والرومانسيون، الذين يختارون صحبة النجوم، فليسوا أقلّ بعداً عن تجربة الليل من سابقيهم.

إنهم يعرفون كلّ شيء مسبقاً عن ليلهم: أنهم سيقضونه سهارى، ويعرفون ربما الساعة التي سينامون فيها، وما سيفعلونه حتى ذلك الحين، أي حتى النهار، إذ لا يغيب عن مخطّطاتهم وأسباب خياراتهم. وهذا ما يحول بينهم وبين عيشهم الليل. بعبارة أخرى، الليل واضح بالنسبة إليهم، واختياره يعتمد تماماً على علاقتهم بالنهار وحساباتهم له، وهذا أبعد ما يكون عن تجربة الليل.

تجربة الليل الحقّ، بالنسبة إلى فوسيل، هي تلك التي يعيشها المرء بكامل جوارحه وبلا تخطيط ولا نظرات متواصلة إلى ساعة يده؛ هي تلك التي لا معاناة فيها ولا خيار؛ تلك التي يرضى فيها بالظلام الذي يجد نفسه كاملاً فيه، ولا يسأل نفسه: ما الذي أفعله هنا، في هذا الوقت؟ إن الشخص الليليّ هو بالضرورة ذلك الذي يترك الليل يقوده كما يشاء، لا العكس. ذلك أن خصوصية الليل تكمن في ظلامه، في بعده عن الوضوح ودقّة الإدراك، وكذلك في لا يقينيّته، وهي أمور لا تتناسب مع خواص ومعايير الذات الواعية والمدركة، التي تفضّلها الفلسفة والعلوم، الذات النهارية التي تظنّ أنها تقود كل شيء.

أكثر ما في تجربة الليل من خصوصية هو التغيير الذي تُحدثه في إدراكنا وآلية عمل حواسّنا، وفي علاقتنا بالآخرين والمجتمع، وكذلك في علاقتنا بالزمان. وما يفعله فوسيل في كتابه هو تقصّي هذه التغييرات واقتراح صياغات نظرية لها. على أيّ حال، تظل التغييرات المتعلّقة بالإدراك والحواس مألوفة لنا: إذ نعرف أنه يمكن لبعض الناس أن يبدوا أكثر جمالاً أو طيبةً ليلاً، كما يكفي لضجيج خفيف، كان ليكون غير محسوس في النهار، أن يدفعنا إلى الخوف أو الوسواس ليلاً. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى ما يغيّره الليل في علاقتنا بالآخرين وبالزمان: تغيير نعرفه في حياتنا اليومية.

على أن المقترح الذي يستحق الملاحظة والنقاش في كتاب فوسيل هو ذلك الذي يخصّ علاقة الليل بالسلطة والسياسة. يشير المفكّر الفرنسي إلى أن السلطة تستخدم الليل، كما النهار، من أجل إحلال نظامها، فهي تحتاج ضوء النهار لتميّز بين المواطنين، لترتبّهم على نحو هرمي، ولتعاقب وتؤنّب وتنفي وتصدر أحكاماً وتلقن دروساً. مثلاً، منع برلمان باريس، عام 1642، الإعدامات العامّة ليلاً، وجعلها مقتصرةً على النهار، لأن "فعل عدالة" كهذا، كي يأتي بنتيجة، لا بدّ له أن يجري في وضح النهار، فهو بحاجة لشهود، لمواطنين يرونه ويتّعظون منه.

أمّا الليل، فلطالما استخدمته السلطة، في تاريخ فرنسا، كمكان تدفع إليه ما تريد حجبه عن التداول. إنه أشبه بمقبرة للنسيان. وهذا التعبير ليس مجازياً تماماً، إذ لطالما فرضت هذه السلطة، عبر تاريخها، دفن بعض الأشخاص المتوفّين غير المرغوب بهم، كبائعات الهوى والجرحى وغيرهم، ليلاً، رغبة في ألاّ يتحوّل دفنهم نهاراً إلى موضوع نقاش عام قد يزعزع سيادتها.

غير أن أطروحة الكتاب الأساسية، في هذا السياق، تبقى في قوله إن الليل أكثر ديموقراطية من النهار؛ فالليل، أوّلاً، مسرح مؤاتٍ للاعتراض والخروج عن الطاعة. كما أنه، ثانياً، يحول دون التمييز والعنصرية، فهو، إذ يغيّب التفاصيل الفردية في ظلامه، يضع الجميع على قدم المساواة. وهو، ثالثاً، مكان للصفح والحِلم.

في رأي فوسيل، حتى أجهزة الدولة، كالقضاء والشرطة، مشمولة بحالة الصفْح هذه ليلاً. فالشرطي، مثل غيره، مأخوذ بالظلام، بلا يقينيّته وبغياب الشهود، ما قد يدفعه إلى التغاضي عن بعض الأمور التي ليس له أن يتغاضى عنها نهاراً. كما أن التشريع القضائي لا يستطيع التصدّي لعدد هائل من الحالات الفردية التي يحفل بها الليل وسكانه، من محتفلين وسكارى وشحّاذين ومشّائين وغيرهم، ما يفتح الباب على التساهل قانونياً في الليل.

إن كان المرء يوافق تماماً على النقطة الأولى من هذا المقترح، فإن نقطتيه الثانية والثالثة تبقيان موضوع نقاش ونقد؛ فالقول بأن الليل مكان للمساواة ينمّ عن تعميم لا يأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي تعيد فيها حياة الليل إنتاج معايير النهار وقواعده بطريقة مختلفة.

لنأخذ مثلاً الاحتفالات والسهرات، التي يتوقّف عندها فوسيل أكثر من مرّة في كتابه ويعتبرها تعبيراً خالصاً عن ديموقراطية الليل، بعكس المسرح الذي يعبّر في رأيه عن حياة النهار.

بالنسبة إليه، وإلى جان جاك روسو قبله، فإن كل المشاركين في الحفل هم صانعوه بلا تمييز، ولا مسافة أو علاقة هرمية بينهم، بعكس المسرح الذي يفصل الممثّلين عن المشاهدين، الفاعلين عن المتفرجين الصامتين، والذي لا يلعب المرء فيه دوره، بل دور شخصية ما.

لكن إذا نظرنا إلى ما يُقدّمه لنا علم الاجتماع من دراسات، في فرنسا على الأقل، حول الاحتفالات، أو ما يُسمّى بالحياة الليلية، نجد أن هذا العالم له مسرحه الخاص، المحكوم بعدد هائل من القواعد والقيَم والألعاب وعلاقات القوى الكامنة، التي تجعل منه فضاء ربما أكثر تحرّراً من النهار، لكن أقل ديموقراطية ممّا قد يعتقده المرء.

أما النقطة الثالثة، الأكثر غرابة في المقترح، والتي تقول بصفح السلطة ومؤسّساتها ليلاً، فالكتاب ذاته يردّ عليها نقدياً في موضع آخر، إذ يتحدّث، من ناحية، عن استخدام السلطة الليلَ، واعتباره مكاناً للنسيان (ما قد يبرّر الصفح ليلاً عمّا لا يُراد رؤيته أو حتى محاكمته نهاراً)، وعن محاولتها الدائمة، من ناحية أخرى، لتوسيع سيطرتها عليه، عبر تقنيات جديدة، من أضواء وكاميرات وغيرها...

دلالات
المساهمون