08 سبتمبر 2019
"القائمة المشتركة" في فلسطين ودروس اليسار الجديد
يتطلّب الهجوم الإسرائيلي على حزب التجمع الوطني الديمقراطي، بدعوى شبهات خرق قانون تمويل الأحزاب، وقد سبقه إقصاء نواب الحزب من الكنيست (البرلمان)، وقبل ذلك إخراج الحركة الإسلامية خارج القانون وحلّ جمعياتها، يتطلب التذكير بضرورة تعزيز الترابط بين الأحزاب والناس في الداخل الفلسطيني، أو بين الشعب وممثليه. وهذا يتطلب، في حالة الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948، النظر مجدّدا في التكتل الانتخابي للأحزاب العربية (القائمة المشتركة)، والذي خاض الانتخابات وفاز ب 13 مقعداً. وقد حذّر كاتب هذه الكلمات، في أكثر من مناسبة، من الانعكاسات السلبية لفكرة القائمة المشتركة، بسبب أن الوحدة فضفاضةٌ لا حقيقة ومبدئية، ونظرًا لأولوية التمثيل البرلماني على التنظيم الشعبي، بحيث يصبح التمثيل غايةً بحدّ ذاتها، وبسبب إمعان أقطابها في وهم التأثير على السياسة الإسرائيلية، متغاضين بذلك عن محدودية التمثيل البرلماني. والآن، وبعد مرور عامين على الانتخابات، يبدو أن هذه المخاطر قَد استفحلت، وتحتاج للتدارك. وتصل خطورة الأمر إلى ما يشبه (ما يمكن أن نسميه مجازًا) "موت السياسة".
ومن أمارات هذا الموت، أولاً، أنّ هناك غيابًا للمنافسة الحزبية على المستوى الفكري والبرامج، ما يؤدي إلى طمس الفروق بين الأحزاب. وثانياً، هناك اضمحلال لدور الحزب التقليدي، لصالح فردانية أعضاء الكنيست والتنافس بينهم. وثالثاً، أولوية التوجه المطلبي على السياسي، والفوري على بعيد الأمد، والإصلاحي على التغيير الجذري. إذ تتصدّر القضايا المطلبية جدول أعمال النواب العرب واهتماماتهم (في حين تتصدّر القضايا والمناسبات الدينية جدول أعمال الحركات الدينية). أما القضايا السياسية فقد أصبحت، عموما، ثانوية. فالنواب قد يتحاشون الخوض في بعض القضايا لأنها خلافية، أو لدرء خطر وصمهم في الصحافة الإسرائيلية بالتطرّف، أو قد يخوضون في بعضها، من باب من لا يملك من العتاد إلا التصريح والخطاب ضد الاحتلال، وضد سياسة نتنياهو، نظرًا لهامشية التمثيل العربي في البنية السياسية الإسرائيلية. وتعكس أولوية المطلبي تفضيلا للتعامل مع الواقع، من منظور التخطيط الفوري والرغبة بتحصيل الإنجاز الفوري، بدلاً من الشروع في بناء مؤسساتٍ على الأمد البعيد.
ويرتبط ذلك كله بهيمنة نزعةٍ براغماتيةٍ تفضّل العمل الإصلاحي ضمن مباني القوة القائمة، بدلاً من نشدان التغيير بزعزعة هذه المباني، ومحاولة تغيير علاقات القوة (ولا يخفى التشابه بين هذه النزعة وممارسة السلطة الفلسطينية لتصبح هذه النزعة مهيمنةً على الساحة الفلسطينية قاطبة). وأفضل مثال على ذلك استمرار نهج نزع الطابع الاحتجاجي عن المناسبات الوطنية، مثل يوم الأرض وذكرى هبّة أكتوبر، بتحويلها إلى طقوس إحياء ذكرى ومهرجانات خطابية، لا مناسبات احتجاجية وكفاحية.
ليست الظروف الاجتماعية والسياسية التي نعيشها كلها من صنيع "القائمة المشتركة"، ولا هي سببها، ولا يجب أن تكون الجواب الوحيد عليها. لكن المشكلة أن القائمة المشتركة (هلّل لها بعضهم نموذجاً يحتذى في العالم العربي) تسير في عكس التيّار الذي يمثّله اليسار الجديد في العالم، والذي يحاول إعادة الناس إلى السياسة، بتنظيمهم وإعطائهم صوتا وتأثيرا في سياسات الأحزاب، وآليات التمثيل، وبإيجاد نموذج سياسي جديد ومختلف عما سبق. ومثال ذلك جيرمي كوربين في بريطانيا وبوديموس في إسبانيا وبيرني ساندرز في أميركا وسيريتزا في اليونان. ولا غضاضة في الاستفادة من تجربة هذه الحركات، لأن ضعف اليسار وصعود اليمين والعزوف عن السياسة وعدم الثقة بالسياسيين أو بأنظمة الحكم أو بالنخب عموماً والسأم من السياسات النيوليبرالية ظواهر حاضرة في أماكن عدة في العالم.
ومن دلائل عدم الاستفادة من هذه التجارب، والسير في عكسها، أنه، في الوقت الذي يستثمر فيه أقطاب اليسار الجديد أساليب تنظيم مبتكرة وجديدة، تقوم على إشراك أكبر عدد ممكن من الناس وتنظيمهم، تبدو مركّبات "القائمة المشتركة" سائرة إلى الخلف إلى عهد تسطيح التنظيم السياسي، وتهميش المشاركة الشعبية (هناك ضعف في نشاطات الفروع المحليّة للأحزاب التقليدية التي كانت في زمن غابر، على الأقل، تنقل الناس إلى مواقع المظاهرات بالحافلات). وفي الوقت الذي يبني فيه اليسار الجديد نفسه بديلاً للقوائم الانتخابية الفضفاضة أيديولوجياً، والتي تهدف إلى الحكم، أولاً وأخيرا، قامت القائمة المشتركة على فكرة "القوة الثالثة" و"التأثير" أولاً وقبل كل شيء. وفي الوقت الذي يبني اليسار الجديد نفسه بديلاً للنظام الانتخابي والتمثيلي الذي زاد الناس اغترابا وابتعادا عن السياسة، بنت "القائمة المشتركة" نفسها على فكرة زيادة التمثيل، وعلى مواسم الانتخابات. وفي الوقت الذي يدعو فيه اليسار الجديد إلى تجاوز البنى الحزبية التقليدية الهرمية والمركزية نحو بنى تشاركية وديمقراطية، وإلى زيادة عدد المنتسبين للحزب، وإلى بناء "حركة" تتعدّى مفهوم الحزب بأسره، تقوم القائمة المشتركة على النجومية الفردية، والاعتماد على البنى التقليدية نفسها لجمع الأصوات.
وفي الوقت الذي يقوم فيه اليسار الجديد بتجاوز البنى الإعلامية التقليدية، مستفيداً من وسائل التواصل الاجتماعي، يرى نوابٌ عرب، في مقابلة في "نيويوركر" أو "نيويورك تايمز" فتحاً مُبيناً، ودخولا إلى "العالمية" من أوسع أبوابها. وفي وقتٍ يستخدم فيه اليسار الجديد وسائل الإعلام الجديد لتنظيم الناس، يختزل النواب العرب هذه الوسائل إلى صفحات فيسبوكية، لنقل أخبار آخر الخطابات البرلمانية والمقابلات التلفزيونية والزيارات والتبريكات بمناسبة العيد والخطوبة. وفي وقتٍ يقوم فيه اليسار الجديد بتسييس القضايا الاجتماعية، تقوم القائمة المشتركة، في الغالب، بتحويل القضايا الاجتماعية إلى بديل للسياسة.
"القائمة المشتركة"، إذًا، محكومة بشروط ولادتها، ولا تتعدّى الإطار السياسي للبرلمان، ويبقى مفهومها للسياسة محدودًا بحدود البرلمان وحدود التمثيل الرسمي وسقف الحد السياسي الأدنى المشترك بين مركّباتها. لا تنبئ استمرارية هذه المحدوديات بالجاهزية للمواجهة في ظل سيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرف على مقاليد الحكم. آن الأوان أن تعود الأحزاب إلى الناس، بدلا من الشكوى المستكينة إلى ابتعاد الناس عن السياسة، كما لو كان ذلك قضاءً أو قدرًا محتومًا. عندها، سيدافع الناس عن الأحزاب، لا لأنها "تمثّلهم"، بل لأنهم أصحابُها. من دون هذا الترابط، لن يهبّ الناس للدفاع عن الأحزاب، ذلك أنها انشغلت بتمثيلهم عن تنظيمهم. ولذلك، قد تتجاوزها في وقت قريب الأحداث، مثلما تجاوزت الشعوب الأحزاب في الثورات العربية.
ليست الظروف الاجتماعية والسياسية التي نعيشها كلها من صنيع "القائمة المشتركة"، ولا هي سببها، ولا يجب أن تكون الجواب الوحيد عليها. لكن المشكلة أن القائمة المشتركة (هلّل لها بعضهم نموذجاً يحتذى في العالم العربي) تسير في عكس التيّار الذي يمثّله اليسار الجديد في العالم، والذي يحاول إعادة الناس إلى السياسة، بتنظيمهم وإعطائهم صوتا وتأثيرا في سياسات الأحزاب، وآليات التمثيل، وبإيجاد نموذج سياسي جديد ومختلف عما سبق. ومثال ذلك جيرمي كوربين في بريطانيا وبوديموس في إسبانيا وبيرني ساندرز في أميركا وسيريتزا في اليونان. ولا غضاضة في الاستفادة من تجربة هذه الحركات، لأن ضعف اليسار وصعود اليمين والعزوف عن السياسة وعدم الثقة بالسياسيين أو بأنظمة الحكم أو بالنخب عموماً والسأم من السياسات النيوليبرالية ظواهر حاضرة في أماكن عدة في العالم.
ومن دلائل عدم الاستفادة من هذه التجارب، والسير في عكسها، أنه، في الوقت الذي يستثمر فيه أقطاب اليسار الجديد أساليب تنظيم مبتكرة وجديدة، تقوم على إشراك أكبر عدد ممكن من الناس وتنظيمهم، تبدو مركّبات "القائمة المشتركة" سائرة إلى الخلف إلى عهد تسطيح التنظيم السياسي، وتهميش المشاركة الشعبية (هناك ضعف في نشاطات الفروع المحليّة للأحزاب التقليدية التي كانت في زمن غابر، على الأقل، تنقل الناس إلى مواقع المظاهرات بالحافلات). وفي الوقت الذي يبني فيه اليسار الجديد نفسه بديلاً للقوائم الانتخابية الفضفاضة أيديولوجياً، والتي تهدف إلى الحكم، أولاً وأخيرا، قامت القائمة المشتركة على فكرة "القوة الثالثة" و"التأثير" أولاً وقبل كل شيء. وفي الوقت الذي يبني اليسار الجديد نفسه بديلاً للنظام الانتخابي والتمثيلي الذي زاد الناس اغترابا وابتعادا عن السياسة، بنت "القائمة المشتركة" نفسها على فكرة زيادة التمثيل، وعلى مواسم الانتخابات. وفي الوقت الذي يدعو فيه اليسار الجديد إلى تجاوز البنى الحزبية التقليدية الهرمية والمركزية نحو بنى تشاركية وديمقراطية، وإلى زيادة عدد المنتسبين للحزب، وإلى بناء "حركة" تتعدّى مفهوم الحزب بأسره، تقوم القائمة المشتركة على النجومية الفردية، والاعتماد على البنى التقليدية نفسها لجمع الأصوات.
وفي الوقت الذي يقوم فيه اليسار الجديد بتجاوز البنى الإعلامية التقليدية، مستفيداً من وسائل التواصل الاجتماعي، يرى نوابٌ عرب، في مقابلة في "نيويوركر" أو "نيويورك تايمز" فتحاً مُبيناً، ودخولا إلى "العالمية" من أوسع أبوابها. وفي وقتٍ يستخدم فيه اليسار الجديد وسائل الإعلام الجديد لتنظيم الناس، يختزل النواب العرب هذه الوسائل إلى صفحات فيسبوكية، لنقل أخبار آخر الخطابات البرلمانية والمقابلات التلفزيونية والزيارات والتبريكات بمناسبة العيد والخطوبة. وفي وقتٍ يقوم فيه اليسار الجديد بتسييس القضايا الاجتماعية، تقوم القائمة المشتركة، في الغالب، بتحويل القضايا الاجتماعية إلى بديل للسياسة.
"القائمة المشتركة"، إذًا، محكومة بشروط ولادتها، ولا تتعدّى الإطار السياسي للبرلمان، ويبقى مفهومها للسياسة محدودًا بحدود البرلمان وحدود التمثيل الرسمي وسقف الحد السياسي الأدنى المشترك بين مركّباتها. لا تنبئ استمرارية هذه المحدوديات بالجاهزية للمواجهة في ظل سيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرف على مقاليد الحكم. آن الأوان أن تعود الأحزاب إلى الناس، بدلا من الشكوى المستكينة إلى ابتعاد الناس عن السياسة، كما لو كان ذلك قضاءً أو قدرًا محتومًا. عندها، سيدافع الناس عن الأحزاب، لا لأنها "تمثّلهم"، بل لأنهم أصحابُها. من دون هذا الترابط، لن يهبّ الناس للدفاع عن الأحزاب، ذلك أنها انشغلت بتمثيلهم عن تنظيمهم. ولذلك، قد تتجاوزها في وقت قريب الأحداث، مثلما تجاوزت الشعوب الأحزاب في الثورات العربية.