برزت في الفترة الأخيرة عدد من الدراسات التاريخية التي تعيد قراءة تراث الفرق الإسلامية وطبيعة الصراع حول السلطة على مرّ العصور، من خلال النظر في الروايات المتضاربة اعتماداً على منهجية علمية والتدقيق في المصادر وفق رؤية نقدية، والالتفات إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية كان لها تأثيرها في مجريات الأحداث.
"الزيدية في إيران" عنوان النسخة العربية التي صدرت حديثاً عن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" لأستاذ التاريخ الإسلامي الباحث الإيراني محمد كاظم رحمتي بترجمة مصطفى أحمد البكور، ويركّز على التأثير الإيراني في تاريخ الزيديّة، وإبرازه كونه أكبر من مجرّد ناقل للتراث الزيدي أو رّابط بين مقلبيه في العراق واليمن، وعدَّه فاعلًا ومطوِّرًا له في أثناء مراحل خطرة من تاريخ هذه الفرقة الحافل بالعقبات والحوادث..
في الفصل الأول، "مدخل إلى مصادر تاريخ الزيدية"، يتطرق المؤلف إلى المصادر الأصليّة لدراسات الزيديّة، ويهدف إلى تسهيل عمل الباحثين في هذا الباب، لهذا اتّسم بنوعٍ من التفصيل. يتناول هذا الفصل بدايات الكتابات التاريخية عن الزيدية، والمؤرخين العراقيين وجهودهم الفردية في التدوين عن حركات العلويين مثل أبي مِخنف لوط بن يحيى الأزدي وعلي بن محمد المدائني، ومؤلفات علم الأنساب وأهميتها في دراسات الزيدية، وتدوين السِّيَر وأهميتها في تدوين تاريخ الزيدية في اليمن.
ويتناول رحمتي، في الفصل الثاني، "نشأة الزيدية"، تشكّلَ الزيديّة، ويبحث في المراحل الأولى لظهورها ونشأتها، متحدثًا عن زيد بن علي في مذهب الشيعة الإمامية، والزيدية بعد شهادة زيد بن علي، والمجموعات الزيدية الأولى في الكوفة، وأبي الجارود زياد بن المنذر وأهميته، والقاسم بن إبراهيم الرسّي ودوره في تكوين علم الكلام وعلم الفقه الزيديَين، وتأثيره في تكوين الفقه الزيدي، عارضًا بعض آراء الرسّي الكلامية.
أما الفصل الثالث، "نشأة الإمارات العلوية في طبرستان"، فيتناول فيه رحمتي وصول الزيدية إلى طبرستان وديلمان (الديلم)، والحسن بن زيد وتأسيس إمارة العلويّين في طبرستان، والإنجازات العمرانية والمذهبية للحسن بن زيد، وإمارة الداعي الصغير محمد بن زيد، والناصر الأطروش والبداية الجديدة لحكومة علويّي طبرستان، والتراث الثقافي للناصر الأطروش والمدرسة الفقهية الناصرية، والحسن بن القاسم المشهور بالداعي الصغير، والإمارة المحلّية للثائرين في هُوسَم، وأبا عبد الله المهدي لدين الله، والمؤيد بالله وإمارته على لنجا وهُوسَم، وينتهي إلى ترجمة آخر الأمراء العلويّين الزيديّين في الديلم، أبي طالب يحيى بن أحمد بن الحسين المؤيّد بالله أحمد بن الحسين الهارونيّ.
يتطرق رحمتي، في الفصل الرابع، "التراث الثقافي للعلويين في طبرستان"، إلى الأَخَوين الهاروني ومكانتهما في مذهب زيديّة طبرستان، والمجتمع الزيدي في الريّ، وكتاب الاعتبار وسلوة العارفين للشجري وأهميته، والمدارس الفقهية لزيدية طبرستان، وزيدية خراسان، والعلاقات الثقافية بين الزيدية والإمامية والإسماعيلية.
في الفصل الخامس "الدولة الزيدية في اليمن"، يعرض المؤلف لأهمّ الشخصيات العَلَويّة المُهاجِرة، وتيّار انتقال التراث الثقافي لزيدية إيران إلى اليمن في القرن السادس، والدور الذي أدّاه القاضي جعفر بن عبد السلام المِسوَري، وأهمّيّة المذهب الزيديّ الإيرانيّ في التحوّلات الفكريّة لزيديّة اليمن، متحدثًا عن الهادي إلى الحق وتأسيس الدولة الزيدية في اليمن، والتراث العلمي للهادي، ووفاة الهادي وبداية الاضطرابات بين زيدية اليمن، والعلاقات الزيدية اليمنية - الإيرانية بعد المنصور بالله.
في ختام الكتاب ثلاثة ملاحق؛ كان قصد المؤلف من إيرادها استكمال بعض الموضوعات السالفة وترميمها. يبحث الملحق الأوّل في مجتمع السادات، ولا سيما الزيديّة النيسابوريّة، وأمّا الثاني، فيتناول أهمّيّة التراث الزيديّ الإيرانيّ، وانتقاله إلى اليمن في القرن السادس، وذلك اعتمادًا على إجازة واردةٍ في مخطوط كتابٍ تمّ العثور عليه مؤخّرًا، ويعود لأبي رشيد النيسابوريّ، وهو موجودٌ في مكتبة جامع صنعاء الكبير، وفيه متن إجازةٍ تلقاها عالمٌ زيديٌّ يمنيٌّ في نيسابور من عالمٍ زيديٍّ إيرانيٍّ.
أمّا الملحق الثالث، فهو عبارة عن نماذج تُبرز أهمية التراث الزيديّ في دراسات تاريخ الإماميّة في القرنين الثالث والرابع الهجريين.